أي سلام عربي لإسرائيل؟

أي سلام عربي لإسرائيل؟

08 أكتوبر 2020
+ الخط -

على امتداد قرن مضى، وحركة الإستعمار الكولونيالي، ومن ضمنها الحركة الصهيونية الاستيطانية، وبإسناد من إمبرياليات العالم الكولونيالي القديم، تحاول أن تمضي بالصراع في المنطقة وعليها قدماً، حتى تحقيق ما خطّطت وهدفت إلى إنجازه، على الرغم مما واجهت من صعاب وعقبات، وقد كان زرع كيان سرطاني غريب، أحد أبرز أهداف الوعد البريطاني المشؤوم، الهادف إلى تقطيع أوصال البلاد العربية، عبر احتلال الوطن الفلسطيني وتشريد قسم من شعبه، تحقيقاً لغرضين متلازمين حتى اللحظة؛ الهيمنة على ثروات وأسواق وأدوات الحفاظ عليها من سلطويات استبداد تابعة وفاسدة محلية، والحفاظ على عناصر استراتيجية القوة والأمن والتفوق والردع الإسرائيلي، بمعية قوى إقليمية عربية وغير عربية، يهمّها كذلك استمرار الحفاظ على عناصر تلك الإستراتيجية إلى أبعد مدى ممكن.

في هذا السياق، جرى ويجري توظيف أوهام وخطط ومخططات "سلام" مزعوم، بدءاً من اللقاءات والاتصالات السرية وشبه السرية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي، مروراً بالمعاهدات والاتفاقات والاتفاقيات التي تكرست في كامب ديفيد ووادي عربة ومدريد وأوسلو، وما بينها من لقاءات سرّية مباشرة وبالواسطة. في وقت يجرى اليوم استئناف هذا المسار ومتابعته، بسردياته المتعرّجة والمباشرة عربياً، من دون مواربة، ومن دون أضاليل ومراوغات، حكمت مسلكيات الماضيين، القريب والبعيد، حتى بات الجميع يستظل المظلة الإسرائيلية ـ الأميركية، وبدفع ذاتي من مصالح شخصية وخصوصية وعامة لدى أنظمة سلطوية فاشلة وطبقات استبدادٍ لا وطنية، انحكمت وتحتكم لروح استبداد شمولي، قامر منذ البداية بشعبه؛ وها هو اليوم يقامر بالوطن والدولة على مذبح "الاستثمار" في سلام موهوم ومزعوم، واستحمارٍ بلا حدود، تفتح اليوم أمامه كل بوابات الإستعمار الكولونيالي "المنتصر"، في لحظة صعود نظام أميركي من أكثر الأنظمة شموليةً وعنصريةً وابتزازاً ونهباً لثروات الشعوب؛ واستهتاراً حتى بالقيم الأميركية وبالدستور وبالقوانين المحلية والدولية، وذلك كله من أجل حماية كيان الإحتلال الكولونيالي الإسرائيلي، صاحب الممارسات الأعنف والأشهر، والسرديات القائمة على الإحلال والإحتلال والمجازر وسياسات التشريد، واستيطان الأرض وطرد أصحابها الأصلانيين منها، لإحلال قطعانٍ من إثنياتٍ وأعراقٍ مختلفة وطوائف مختلفة، يطلقون على أنفسهم زعماً أنهم "شعب الإله".

جرى ويجري توظيف أوهام وخطط ومخططات "سلام" مزعوم، بدءاً من اللقاءات والاتصالات السرية وشبه السرية التي بدأت في سبعينيات القرن الماضي

وإذا كان بعض الفلسطينيين قد أخطأوا، ويخطئون لأجل مصالح شخصية وسلطوية أنانية ونرجسية، في تعاطيهم مع محتلي وطنهم، وبالتنسيق معهم وإقامة علاقاتٍ تطبيعيةٍ لا علاقة لها بأي مبادئ أو قيم وطنية، فهل يكون مثل هذا السلوك مبرّراً للأشقاء العرب، في تخطّيهم كل الحواجز والسدود من أجل التلاقي مع عدو طبقي وقومي وعرقي وديني، ضد شعبٍ ووطن شعب شقيق، مضى على معاناته من احتلال كولونيالي واستيطاني أكثر من سبعين عاماً، حين جرى طردُه من أرضه واستيطانها والإستيلاء عليها واحتلالها، في محاولةٍ لتذويب هويته الوطنية. هوية ساهم عديد من أنظمة المؤامرات والخيبات والخيانات الوطنية في محاولة طمسها والقفز عنها وتبهيت انتماءات أصحابها زوراً وبهتاناً، والدخول في شراكاتٍ مشبوهة مع الاحتلال، ما أضفى مزيداً من المعاناة على مآسي شعب النكبة والنكسة والنكبات المتلاحقة التي حاقت به منذ عام 1948 مروراً إلى "أوسلو".

وعلى الرغم مما قيل ويقال عن "تاريخية" هذا الاتفاق أو ذاك من اتفاقيات الاستسلام والإنهزام العربي، سيبقى التاريخ عامل الوحدة الأقوى على شهادات السردية الفلسطينية في مواجهة سرديات الاحتلال والمروّجين والمسوّقين لتزييفاته التوراتية قديماً، ولتلك السياسية الراهنة؛ الخارجة عن الإجماع الإنساني حتى، لدى عربٍ لا يعرفون أنهم ينتمون إلى العروبة، وقد ناموا نومة أهل الموت، ولم يستفيقوا إلا حين أصابتهم النقزة، وها هم يجدّدون انتماءاتهم لهوامش عشائرية وقبلية، كما ولأسرلة ستبقى ضائعة بين طبائع الأمم، فلا هي مسمّى لشعب، ولا هي مسمّى لعرقٍ محدّد من أعراق الكون؛ فأي سلامٍ يقدّمه هؤلاء لإسرائيل العنصرية الكولونيالية الإستيطانية؟ وما الذي يملكونه من عناصر الأمن والسلام والاستقرار، سوى بعض أوساخ مال فاسد ومنهوب من أرصدة شعوبهم ودولهم، يقامرون به على مذبح أطماعٍ يتبارون فيها مع أطماع الإستكلاب الكولونيالي، بهدف الهيمنة على مقدّرات شعوب المنطقة وأممها. 

وحدهم الفلسطينيون، بغض النظر عن واقعهم الراهن، من يستطيعون أن يصنعوا سلامهم الخاص، كونهم شعب الأرض وأصحابها

لقد مضى عصر الأوهام وزمنها، فما يجري اليوم في فضاء الصراع الفلسطيني/ العربي ضد كيان الإحتلال والإستيطان الصهيوني، لا يمكن اعتباره سليل مرحلةٍ انقضت، طالما يستمر الإحتلال بالعداء المطلق للهوية الوطنية الفلسطينية ـ العربية بقيمها التحرّرية الأكثر أصالةً وتأصيلاً في تربة بلادنا العربية؛ حتى التي ما زالت تتملكها عقلية الإستعمار الكولونيالي، ولم تخرج من عباءته، على الرغم من مظاهر استقلالات شكلية لم تقدّم للشعوب أي منجز تاريخي. ومن جائحة المآسي اليوم أن يعتبر بعض الحكام أنهم يقدمون على اختراع "منجز تاريخي"، في ما أقدموا ويقدمون عليه، من اتفاقات وإعلان تحالفات مشبوهة مع كيان الإغتصاب الصهيوني في بلادنا، وداعميه من غرب الكولونيالات القديمة، وهي تجدّد اليوم دعمها الإجرام الغادر لكيان الإحتلال، باسم سلام موهوم، لا علاقة له بأي أمن أو استقرار، لا لن يفضي إلى سلام منشود، بل هو إلى الإستسلام والإنهزام الحضاري أقرب. 

وحدهم الفلسطينيون، بغض النظر عن واقعهم الراهن، من يستطيعون أن يصنعوا سلامهم الخاص، كونهم شعب الأرض وأصحابها، الأرض التي شهدت ولادة شعوب كنعان، منذ بدء التدوين وسميت باسمهم، إلى أن غلّب الفلسطينيون اسمهم على فلسطينهم أرض آبائهم وأجدادهم، ولم تزل فلسطين هي الشجرة المثمرة الراسخة زيتاً وزيتوناً، على الرغم من الانقطاعات الزمنية والنكبات والنكسات والهفوات التي لن تستطيع أن تغيّب اسم فلسطين عن خريطة العالم، على الرغم من غلبة "الأمر الواقع" وقوة أصحابه من المنحطّين أخلاقياً وقيمياً ووطنياً.

لسنا عبيداً لليهودية وأطماعها في هذه البلاد (بلادنا)، ولن نكون كذلك في أيٍّ من مراحل هيمنتها بدعم صانعيها وداعميها ومسانديها، ولسنا ممن يعادون على الهوية أياً كان، على الرغم من عداء بعضهم لنا، أما محالفوها من عرب اليوم فهم أعداء أنفسهم وأعداء شعوبهم وأعداء أوطانهم وبلادهم وما تسمّى "دولهم"، فأي بؤسٍ يرتع فيه أولئك الذين يتبجّحون بسياسات التسامح والأمن والاستقرار والسلام الموهوم؟

يعتبر حكام أنهم يقدمون على اختراع "منجز تاريخي"، في ما أقدموا عليه من إعلان تحالفات مشبوهة مع الكيان الصهيوني

أما المنجز التاريخي الموعود فهو ذاك الذي لا يمكن أن يحققه إلا الشعب الفلسطيني، الموحد بقواه الجبهوية المتكاتفة، وبدعم القوى الوطنية والتحرّرية العربية وأحرار العالم. ومن فلسطين وليس من أي مكان آخر يبدأ سلام العالم، حين ينتهي ظلم الإحتلال وظلاماته السوداء، ليسود عدل السلام الحقيقي، ويطغى على ظلم "سلام" الإستسلام المقامر بشعوب هذه المنطقة من العالم ودولها. 

وفي الوقت الذي كانت تنحني فيه هامات بعض الرسميين العرب وقاماتهم، كان رئيس حكومة الإحتلال، بنيامين نتنياهو، يرفع عقيرة لاءاته، بصلفه وبعنجهيته وغروره المعهودين، ناقلا المواجهة مع الفلسطينيين تحت غطاء صكوك الإستسلام والانهزام العربي، إلى الذروة، وذلك في مقابلةٍ أجرتها معه صحيفته التي توزع مجاناً "إسرائيل اليوم"، تحدّث فيها عن جوهر ما تسمّى "خطة الرئيس ترامب للسلام في الشرق الأوسط" التي تتضمّن أسسا لطالما حلم بها اليمين الليكودي الإسرائيلي، وذلك من قبيل: "لا دولة فلسطينية لا الآن ولا في المستقبل، وإنما جيوب متفرّقة لسكان فلسطينيين، وليسموا أنفسهم دولة أو إمبراطورية، إذا أحبّوا ذلك"، والمفاوضات الإسرائيلية ـ الفلسطينية ستكون على أساس أن "لا عودة حتى ولو للاجئ واحد، والقدس عاصمة موحدة أبدية لإسرائيل، والسيادة المطلقة لإسرائيل على الضفة". 

أي "إسرائيل" تلك التي يريد بعض عرب اليوم الاعتراف بها والتطبيع معها، والعيش تحت حمايتها بذل الانتحار وانكساره وسكينته؟

ولم يخف نتنياهو كامل أهدافه المباشرة، من قبيل ضم الأغوار من دون منح سكانها الجنسية، ومثل هذا الضم "لا يمكننا تسميته ضمّاً، وإنما إعلان ما سماه "سيادة القانون الإسرائيلي" على الضفة"، ما يعني منع إقامة أي كيان فلسطيني مستقل في الضفة الغربية، إلحاقا لها بالأغوار. في حين أن سيادة القانون على الضفة تعني، وفق مفهوم حكومة الإحتلال، ضرورة سحب الهويات والجوازات التي أصدرتها السلطة الفلسطينية، كما ستلجأ إلى إبعاد المواطنين الفلسطينيين الذين دخلوا تحت سقف "أوسلو" إلى بلدانهم. 

وفق هذه الشروط، يكبر السؤال الإعتراضي المصيري والوجودي: أي سلام عربي لإسرائيل؟ وأي "إسرائيل" تلك التي يريد بعض عرب اليوم الإعتراف بها والتطبيع معها، والعيش تحت حمايتها بذل الانتحار وانكساره وسكينته؟

47584A08-581B-42EA-A993-63CB54048E47
ماجد الشيخ

كاتب وصحفي فلسطيني مقيم في لبنان. مواليد 1954. عمل في الصحافة الكويتية منذ منتصف السبعينات إلى 1986، أقام في قبرص، وعمل مراسلا لصحف عربية. ينشر مقالاته ودراساته في عدة صحف لبنانية وعربية.