أي حل لأزمة الثقة في تونس؟

أي حل لأزمة الثقة في تونس؟

29 يونيو 2021
+ الخط -

لا يبدو أن الأوضاع في تونس ذاهبة باتجاه التهدئة أو الحل، بعد أن بلغ المشهد السياسي مرحلة من الانسداد غير المسبوق، على خلفية أزمة الثقة ومعركة الصلاحيات الممتدة أكثر من سنة، فكل المؤشّرات تفيد بأن الأيام المقبلة ستشهد مزيداً من التصعيد، سواء في المواقف أو التصريحات، بعد أن توسّعت المعركة لتشمل قطاعات الأمن والدفاع والخارجية والهيئات الدستورية.
يدور الخلاف بين الرئاسات الثلاث في تونس، والذي يشهد استقطاباً ثنائياً طرفه الأول الرئيس قيس سعيّد، والثاني رئيسا البرلمان راشد الغنوشي والحكومة هشام المشيشي، حول موضوع النفوذ والسيطرة على السلطة وتوزيع الصلاحيات الدستورية بين المؤسسات الثلاث، عبر محاولة كل مؤسسة فرض النظام السياسي الذي يناسب مصالحها وأهدافها، فالرئيس سعيّد يبدو متمسّكاً بتأويلاته للدستور التي يعارضها خبراء دستوريون وأساتذة قانون كثيرون، ومصرّاً، في الوقت نفسه، على رفض الحوار مع من يصفهم بـ "المتآمرين والمنافقين والفاسدين وذوي النفوس المريضة". كما أنه لا يُخفي رفضه الصيغة الدستورية الحالية، وعدم اقتناعه بالبرلمان والأحزاب السياسية والنظام السياسي الحالي، فينادي بنظام رئاسي يمسك فيه الرئيس بكل الصلاحيات التنفيذية، ويتراجع فيه دور رئيس الوزراء، ليتحوّل إلى وزير أوّل يقتصر دوره على تنفيذ سياسة الرئيس وتوجيهاته. في المقابل، يرفض الطرف الآخر الذي يمثله الغنوشي المشيشي التسليم لسعيّد بما يريد، ويتمسّكان بالنظام السياسي الذي أقره دستور عام 2014.

ما يحدث في تونس معركة سياسية، أكثر منها دستورية أو قانونية بين رئاسة طامحة إلى نظام رئاسي كامل، وبرلمان متمسّك بنظام شبه برلماني

وعلى الرغم من أنّ علاقات القوى الحالية لا تشير إلى إمكانية نجاح أيٍّ من طرفي المعركة في الانقلاب على الوضع القائم، فلا الرئيس قادرٌ على فرض النظام الرئاسي أو إنهاء حكومة المشيشي أو حل البرلمان المحكوم بضوابط قانونية مقيدة، ولا البرلمان والحكومة قادران على عزل الرئيس، والاستمرار في الحكم من دون عراقيل ومنغصات، الأمر الذي يعني أن معالم التغيير المنشود في مقاربات (ومنهجية) الحكم والتحكّم بمفاصل النظام والدولة في تونس، لن يكتب لها التغيير، طالما بقي كل طرف يتعامل مع الطرف الآخر في طروحاته وتصريحاته من مبدأ إثبات القوة، لا من منطق التعقل السياسي. لذا يبقى احتمال انتصار طرفٍ على آخر بعيدا، خصوصا في غياب المحكمة الدستورية التي يشهد تشكيلها تجاذبات سياسية حادّة منعت تشكيلها منذ عام 2014.
وبالتالي، ما يحدث في تونس معركة سياسية، أكثر منها دستورية أو قانونية بين رئاسة طامحة إلى نظام رئاسي كامل، وبرلمان متمسّك بنظام شبه برلماني. وعلى الرغم من أنّ الدستور الحالي ترك مناطق تماس عديدة تثير غموضاً والتباساً بين صلاحيات الرئاسات الثلاث، منعاً لانفراد أيٍّ من الرئاسات بالحكم على مبدأ "الجميع يحكم فيها ولا أحد يتحكّم"، إلا أنّ غياب المحكمة الدستورية للبتّ في هذه النقاط زاد الأمور تعقيداً، على اعتبار أنها وحدها المخوّلة بالبتّ في مثل تلك الخلافات والصراعات.
وفق هذه المعطيات، تبقى الرهانات الحالية للخروج من الأزمة المتشعبة والمتفاقمة مفتوحةً على خيارات وطروحات معقدة بحساباتها ونتائجها، وربما يكون أولها وأهمها إرساء المحكمة الدستورية للبتّ في الخلافات الحالية، حيث يعد إرساء المحكمة الدستورية أحد أهم المخارج من أزمة الثقة ومعركة الصلاحيات الحالية.

الوصول إلى حل للوضع الراهن يتحقق بالحوار المفتوح بين كل القوى التونسية بدون شروط مسبقة، أو باالذهاب إلى استفتاء

يمكن القول إن الدعوة التي أطلقها الاتحاد العام للشغل إلى إجراء حوار وطني يمكن البناء عليها، لإنهاء هذه المعركة والأزمة، وربما يكون للوساطة الدولية أو الإقليمية دور فاعل في تحقيق هذا الأمر، حيث تزايد الحديث أخيرا عن إمكانية توسّط فرنسا التي تملك علاقات جيدة مع كل الأطراف في الساحة السياسية التونسية، لتقريب وجهات النظر وإيجاد حلول قد تخرج البلاد من مأزقها، فالجلوس إلى طاولة الحوار وتقديم التنازلات المتبادلة والتعامل مع الخلافات في إطار مؤسساتي، بعيداً عن الشخصنة، وتغليب منطق الحوار يعتبر الأسلوب الأفضل والأنجع لفض هذه الخلافات، في حين أن استمرار التشبث بالمواقف السياسية على حساب المصلحة العامة قد يدفع إلى تعطيل مؤسسات الدولة ومصالحها، وبالتالي تعميق الأزمة واستفحالها، فسياسة الهروب إلى الأمام لن تنتج أي حل، وعلى جميع الأطراف السياسية والاجتماعية تحمّل مسؤولياتها، في ظل الأوضاع الاقتصادية والاجتماعيّة المتفاقمة جرّاء انتشار وباء كوفيد - 19 وحركة الإضرابات والاحتجاجات المتلاحقة وغلاء الأسعار وارتفاع نسبة البطالة والتراجع المستمرّ للخدمات العامّة.
فالوصول إلى حل للوضع الراهن وإخراج تونس من أزمتها العميقة يمكن أن يتحقق اليوم بطريقتين، إما بالحوار المفتوح بين كل القوى التونسية بدون شروط مسبقة أو فيتوهات جاهزة، على أن توضع على قائمة أعماله الأولويات الوطنية والأجندات الحقيقية للشعب التونسي، أو من خلال الذهاب إلى استفتاءٍ يخرج تونس من نفق الصراع الدستوري، ويحسم النظام السياسي التونسي والقانون الانتخابي، قبل الذهاب إلى انتخابات مبكرة برلمانية ورئاسية، تعيد إنتاج السلطة التونسية وعلى أسس واضحة وسليمة.
لا يمكن التنبؤ متى تنتهي هذه المعركة، لكن في كل ساعة تأخير ضرر كبير وتأثير سلبي على الشعب التونسي كافة، خصوصا وأن تونس أمام استحقاقات مالية مهمّة تستوجب معها إيجاد أرضية اتفاق ووحدة بين جميع مؤسسات الدولة، بما يساهم في التركيز على الاقتصاد وجلب التمويلات والاستثمارات، واستعادة ثقة المانحين بعيداً عن التجاذب الحزبي والصراع الأيديولوجي.