أين نهر بردى؟
جانب من نهر بردى وسط العاصمة دمشق (3/1/2017 فرانس برس)
أول نهرٍ أراه في حياتي، في أول مدينةٍ خارج الأردن أزورها، في أول بلدٍ أسافرُ إليه. كنتُ في الحادية عشرة (وشهور)، في صيف 1977، لمّا جئنا، والدي وأنا، إلى سورية، برّاً من عمّان، وشاهدتُ في دمشق نهر بردى، يضجّ بامتدادٍ لا أرى بدايةً له ولا نهاية، وبمياهٍ تطلع من جوفِه إلى فوق وتنزل، وبعضٌ منها يرقُص ويتراقص، ويتلوّن من أضواء لا أعرفُ كيف صارت له وعليه، في مشهدٍ سرق عقل الصبي الذي كنتُه، والناسُ بلا عددٍ في جنبات معرض دمشق الدولي. يا لسحر تلك الساعات هناك، يا للدهشة التي ما زلتُ عليها وأنا أخطو إلى السّتين، يا لذلك الفرح الغزير الذي لم يغادرْني، وكنتُ امتلأتُ به وأنا أرى النهر الذي حدّثنا عنه معلم العربية في المدرسة، وهو يشرحُ لنا مطلع قصيدة أحمد شوقي، "سلامٌ من صبا بردى أرقُّ/ ودمعٌ لا يُكفكف يا دمشق". له، النهر الذي أحدّق فيه وأتملّى في جريانه، متمهّلاً وسريعاً، صوتٌ لا كما صوتُ أي مياه، صوتُ شاعرٍ صامت، كما قرأتُ لمحمّد الماغوط بعد عقود، هو الذي صوتُ فيروز منه، كما سمعتُ في أغنيةٍ لها فيما بعد، "أنا صوتي منك يا بردى/ مثلما نبعُك من سُحُبِ"، على ما كتب المتيّم بالشام، سعيد عقل. وفي ذلك المشوار المقيم في حشاياي، منذ ذلك الصيف، كان صوت فيروز تغنّي يرافق جريان النهر، ويُصاحب جموعاً من الناس في المعرض، ويؤالِف مع مشهد بردى البديع إيقاعاً لا أجملَ ولا أحلى ولا أرقّ.
في زيارةٍ تاليةٍ إلى دمشق، للتسجيل في الجامعة للدراسة، إن أمكن (وهو ما لم يحدُث)، في صيف 1982، لا أتذكّر أنني زرتُ بردى، أو أنني رأيتُه، ربما لمشاغل عاجلةٍ كنتُ عليها، أو لمزاج غير مرتاح، أو لسببٍ آخر لا أتذكّره. وفي زيارة ثالثة، في 1995، مع صديقٍ، سمعتُ أن مزاج النهر نفسه لم يعُد هو الذي كان، فلم نمرّ عليه، وكأني وددتُ ألّا أخدش صحبة ذلك الصبي معه، كأني أردتُ لتلك البهجة الثاوية فيَّ أن تُصان، كأني أردتُ أن أكتفي بالذي كان عليه الشاعر جورج صيدح لمّا استهلّ قصيدة يتغزّل فيها بدمشق "كأني حلمتُ أنني قريبٌ منك يا بردى/ أبلّ قلبي كما بلَّ الهشيمَ ندى". أما الزيارة الرابعة، الشهر الماضي، (محض مصادفة غير مقصودة أنني لم أزُر دمشق في سنوات بشّار الأسد)، فغاب عني السؤال عمن خلعتُ عليه صديقَ يفاعتي الأولى، نهر بردى، ربما لأن الفرح العظيم بتحرير سورية من آل الأسد شغَلنا، ولأن أحداً لم يُحدّثنا عنه، ولم ينصحنا بمقهى أو مطعم أو ركنٍ عند أيٍّ من جنباته. ثم بعد شهر، أجدُني في دمشق، وأسأل أصدقاء سوريين عنه، أُخبرهم أن اثنيْنا نعرف بعضنا منذ نحو خمسة عقود، فيُسهبون عن حاله المؤسف، عن جفافه، وتلوّثه، عنه ساقيةً تُرمى فيه النفايات والمخلّفات، مجرى مياه منسيّة، ذات رائحة كريهة غالباً، بعد أن دمّرته مياه الصرف الصحي. يقولون لي عن انعدام الجاذبية فيه. والأكثر إدهاشاً أن مقطعاً منه على مقربة أمتارٍ معدودةٍ من حيث أنا في الفندق. وأحدّثهم أنني لا بدّ أزوره، لا لأن هواه كالسيف يسكنني، كما حال نزار قباني الذي عدّه "أبا النهور"، إنما لشيءٍ في نفسي.
يا للهوْل، يا للسؤال: أين بردى؟ من الذين سرقوه، ثم أماتوه؟ من الذي اقترف هذه الجريمة بنهرٍ في أقدم مدن الأرض؟ وقد قال الشاعر القديم، جرير، "لا ورد للقوم إذا لم يعرفوا بردى". يا لسؤالٍ آخر: ماذا نصنع، إذن، بقصائد نزار قباني وسعيد عقل ومحمد مهدي الجواهري وأحمد شوقي وجورج صيدح وعنقودٍ من الشعراء والمغنّين والملحنين (محمد عبد الوهاب ومحمد عبد المطلب والرحابنة...)؟. يؤرّخ من أرّخوا أن بردى في فيضاناته كان يُغرق دمشق في القرنين السادس عشر والسابع عشر، ويقول سبعينيون وثمانينيون إن فيضانه في الخمسينيات كان يغلق بعض الطرقات. أما أهل الاختصاص، فيُخبروننا بأن الأنهر تنقّيها نباتاتٌ فيها، غير أن بردى لم يعد قادراً على تنظيف نفسه، فالتلوّث فاق طاقته. ... يحدّثني من يحدّثني عن نداءاتٍ رسميةٍ وأهليةٍ تداعت إلى "إنقاذ" النهر الحزين لم تلق أصداء لها. وأحدّثُ نفسي بأنه الحكمُ الذي خرّب البلاد كان عدوّاً للجمال والوداعة.
ثمّة شحوبٌ بادٍ في دمشق المتعبة، أراه بيُسر، وأرى موت بردى عنوان زمنٍ ظُلمت فيه سورية كثيراً. ... تُراه يأتي زمنٌ آخر، يُسعف سورية، فيسمع من يقيم في فندقٍ مجاورٍ للنهر صوت مياه عذبةٍ ترقصُ وتتماوج؟