أين سرّك أيها الشعر

أين سرّك أيها الشعر

20 مارس 2021

(محجوب بن بلة)

+ الخط -

قبل أيام، كان بواب العمارة يحدّثني عن شقة في الطابق التاسع، بشرفة واسعة جدا ومكشوفة على كامل محيط العمارة. عم حسين البواب الذي يراني دائما أحمل أحواض زرع لأزين بها شرفتي الصغيرة، كان يحاول إقناعي بالانتقال إلى تلك الشقة بسبب شرفتها، وكان يحدثني عنها، ويخبرني أن السيدة التي كانت تسكن فيها (وحيدة في منتصف خمسينيتها، مثلي)، كانت عاشقة للحيوانات الأليفة، كانت تحمل قطط الشارع إلى الشقة لإطعامها وتنظيفها. وتابع "تخيّلي من كتر رأفتها مع المخلوقات الأخرى كانت تضع حبات السكر على أطراف البلاط كي تطعم النمل، وكانت تملأ الشرفة بحب القنبز ليأكله الحمام". حين سمعت هذه الجملة فتحت فمي من فرط الدهشة. ظن عم حسين أن دهشتي بسبب ما سمعته عن تصرّف السيدة مع الحيوانات والطيور، بينما الحقيقة كانت شيئا آخر.

في كتابي الشعري ما قبل الأخير "التي سكنت البيت قبلي"، وهو عن النساء الخمسينيات الوحيدات، ثمّة نص: "نحن لا نفعل شيئا مهما/ نقلب التربة الرطبة في أحواض الزرع على شرفاتنا الصغيرة/ نضع حبّات القمح على الخشب النافر من نوافذنا/ كي نعلن تآلفنا مع العصاقير والحمام/ نوزّع حبّات السكّر على البلاط/ ثم نراقب جاراتنا من النمل يسحبنها حبّة وراء حبة". صور النص مجازية جدا، محاولة لرؤية ما تفعله العزلة والوحدة في النساء في هذه المرحلة الخطرة من السن، خصوصا من يعشن وحيدات لسببٍ أو لآخر. لا أعرف أحدا يوزّع السكّر على البلاط ليحملها النمل إلى مخبئه. تراثنا مع النمل هو الإبادة إن كان كبيرا، أو عدم الاكتراث إن كان صغيرا لا يُرى، يا إلهي: هل كنت أتحدّث عن هذه السيدة التي لم أرها؟

"التي سكنت البيت قبلي" هو مجموعة من نصوص العزلة، كتبتها بين 2013 ونهاية 2015، صدر الكتاب في آخر شهر أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2016. وتزامن صدوره مع يوم خروجي من المستشفى، بعد عملية جراحية حساسة (قلب مفتوح وتغيير شرايين). حصل الأمر بسرعة غريبة، إذ لم أكن أعاني من أي شيء يتعلق بالقلب قبل فترة العملية. خلال أيام، أصبت بجلطاتٍ متتاليةٍ انتهت بـتشخيص انسداد كبير في الشرايين، لا ينفع معه تركيب شبكة، وإنما عملية قلب مفتوح طارئة وسريعة، وهو ما حدث فعلا. في الكتاب نصوص كثيرة عن الفراغ في الجهة اليسرى، وعن القلب الملقى خارجا (في عمليات القلب المفتوح يتم إخراج القلب خارج الجسد). عن الندوب تحت الثدي الأيسر، عن الجرح الطويل في الصدر. كتبت عن ذلك كله من دون أن أعرف أن بي علة قلبية، من دون أن أعرف أصلا أي شيء عن عمليات القلب المفتوح. حتى حين دخلت العملية، لم أكن أعلم أنهم ينشرون القفص الصدري ويخرجون القلب خارج الجسد. كتبت عن الشق الطويل في القفص الصدري، من دون أن يخطر لي يوما أنه سيكون علامة في جسدي بعد حين.

ثمّة شيء آخر: الشقة التي أسكن بها فيها كانت تعيش فيها قبلي سيدة يونانية في مثل سني. كانت وحيدة أيضا، وهي من ألهمتني فكرة الكتاب. وأخيرا، عرفت أنها عادت إلى اليونان، لأنها أصيبت بأزمة قلبية طارئة! أخبرتني بذلك عاملة "السنترال" حين كنت أدفع فاتورة الهاتف الأرضي الذي ما زال باسم السيدة اليونانية، ماريا قسطنطين.

هل كل ذلك مصادفةً؟ هل ثمّة رؤية ما تنتاب الشاعر لحظة كتابة نصه، أم هو وحي فعلا (جنّي الشعر) كما اصطلح بعض الشعراء على تسمية الوحي؟ أم أن الشاعر يصل، لحظة الكتابة، إلى درجة من الاتحاد مع ذاته، يتلقى خلالها إشارات جسده فيكتب الإشارات تلك على شكل مجاز من دون أن ينتبه إلى بُعدها الباطن في لاوعيه؟ هل الشاعر راءٍ؟ لم أحب بوما هذه الجملة التي استخدمها جيل ستينيات القرن الماضي، الشعري، لكنني أيضا لا أفهم النبوءات التي تظهر في القصائد أحيانا كثيرة. .. أين يكمن لغز الشعر.. في الانفصال الكامل عن الواقع لحظة كتابة النص، أم في الفردانية المهولة التي تصل أحيانا إلى حد النيرفانا عند الانتهاء من الكتابة؟ أظن أن هذا ما يجعل الشعراء مغرورين: هذه المقدرة على الكشف والرؤية حد النبوءة، المفردة التي لم أطقها يوما، لكنني بتّ مضطرة للتفكير بها وأنا أرتجف من الخوف.

BF005AFF-4225-4575-9176-194535668DAC
رشا عمران

شاعرة وكاتبة سورية، أصدرت 5 مجموعات شعرية ومجموعة مترجمة إلى اللغة السويدية، وأصدرت أنطولوجيا الشعر السوري من 1980 إلى عام 2008. تكتب مقالات رأي في الصحافة العربية.