أيمن الأصفري وجردة أربعة شهور سورية
أيمن الأصفري يتحدث إلى تلفزيون سوريا
أجرى تلفزيون سوريا مقابلة مع رجل الأعمال السوري العالمي، أيمن الأصفري، بثها الأسبوع الجاري، برّر فيها الرجل إطلالته على الإعلام بأن سورية قد تتقسّم، وأنها في أخطر مرحلة في تاريخها. لم يرفض حكم الرئيس أحمد الشرع، ولكنّه خالفه في سياساته كلّها منذ وصوله إلى دمشق واستلامه الرئاسة عبر "مؤتمر النصر". وانتقد المجلس التشريعي الذي كُلّف الشرع تشكيله (لم يتشكّل بعد)، بمنحه حقَّ اختيار الثلث، وتعيين لجنة تكون مسؤولة عن تكليف الثلثَين الآخرَين.
تأتي أهمية الأصفري من أنه أصدر بياناً في نهاية فبراير/ شباط الماضي (بعد أن أُشيع أنه قد يكون رئيساً لحكومة انتقالية مقبلة)، فُهم منه أنّه رفض الخضوع لمتطلّبات إدارة الشرع، وإصراره على الاستقلالية في رئاسة الحكومة، ووضع سياسات مستقلّة للنهوض العام بالدولة السورية. يُعتبر الرجل من أنجح رجال الأعمال في سورية، ولديه إسهامات في دعم المجالس السياسية والمدنية منذ 2011. وبالتالي، لا يسعى إلى رئاسة مجلس الوزراء ليغتني أو لمكاسب وامتيازات شخصية، فالرجل عالميّ بكلّ معنى الكلمة.
أعلن الأصفري مخاطرَ كُبرى تحيق بسورية، وليس بحكم الشرع فقط، في حال استمرار سياسات إدارة الأخير، والتفرّد والاستئثار، وهيمنة الديني على السياسي، وتحكيم بعض القادة العسكريين والأمنيين الأجانب في الجيش والأمن العام، وفي مختلف أجهزة الدولة السورية. وبرأيه، هناك أوساط أميركية فاعلة ترى أن هيئة تحرير الشام كلّها أقرب إلى تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وأن أميركا شكّلت تحالفاً دولياً لمحاربة "داعش" في 2014، والتقى مبعوث أميركي كبير في بروكسل، في 18 من الشهر الماضي (مارس/ آذار)، وزيرَ الخارجية السوري، أسعد الشيباني، وسلّمه دفتر شروط لشرعنة إدارة الشرع لسورية، وفي مقدمتها إخراج الأجانب من سورية، وليس من المناصب السيادية في الدولة السورية فقط، وأن هذا أحد الشروط للبدء برفع العقوبات الأميركية، التي لا يمكن لدولةٍ في العالم تخطّيها. ومن هنا، لا تستطيع الدول الداعمة لإدارة دمشق (تركيا وقطر بشكل خاص) الالتفاف على تلك العقوبات، وإلا تعرّضت هي لخطر العقوبات. قال الأصفري هذا الكلام بدبلوماسية، وبرغبةٍ كبيرة ألّا تفشل المرحلة الانتقالية، وبإيقاف هدر الوقت؛ فسورية، على زعمه لا تحتمل استبداداً جديداً، ولا هدر 50 سنة إضافية كما في مرحلة الأسدين المتوحّشة، ولا تحتمل مزيداً من التجريب.
كان الرجل واضحاً في تبنّيه أغلبية طروحات المعارضة السورية منذ 2011، وأن هذا البلد لا يُحكم إلا بنظامٍ ديمقراطيٍّ، وبمواطنة وبفصل للسلطات وعدم تحكم الدين بالسياسة، بتمثيل المدن السورية كافّة في السلطة، وبشعور أغلبية السوريين أن الدولة دولتهم، وأصرَّ على أن إعادة تشكيل الجيش تتمُّ عبر الضبّاط المنشقّين، وأن خطأً كبيراً جرى في حل مؤسّسة الشرطة وبطرد أكثر من 500 ألف عامل من وظائفهم، وأن هذه الخطوة غير قانونية نظراً إلى الشرعية المنقوصة للإدارة، إذ هي غير منتخبة. وعدا أن تلك الاطروحات قديمة، فقد أصرَّ عليها الفاعلون السياسيون كلهم منذ رحيل النظام السابق. وبالتالي، هناك رؤيتان سياسيتان للنهوض بسورية، واحدة استئثارية لهيئة تحرير الشام، وأخرى تشاركية تُوقف التمييز والتجييش الطائفيين وابتعاد الأقلّيات عن الحكم، وتنطلق من المساواة بين السوريين، ومن مبادئ المواطنة، والاتجاه نحو نظام ديمقراطيّ.
قد يتحوّل العمّال المطرودون قنبلةً أمنيةً قابلة للتفجّر في سورية حال ظلّوا من دون مداخيل وعيش كريم
أشار الأصفري إلى إشادة وزير الخارجية، أسعد الشيباني، بالتجربة السنغافورية، فقال إن في هذا البلد أقلّيات دينية كثيرة، ولكن نظامه ديمقراطي وينطلق من المواطنة، والدخل فيه من أعلى الدخول في العالم، وبالتالي، على السوريين تبنّي ذلك النظام، وهذا هو المدخل للنهوض ببلدهم، وليس هناك من سواه. كما تعجّب الرجل من غياب مفهوم الديمقراطية وبشكل حاسم من المفردات السياسية للإدارة. وحينما قالت له محاورته (نور الهدى مراد) إن الإدارة تعتمد الشورى بديلاً، رفضها رفضاً حاسماً، واستفاض في أن الفقه ليس مصدراً للاقتصاد أو للسياسة أو للتعليم أو للثقافة، والدولة الحديثة تحتاج منظومةً فكريةً واقتصاديةً وثقافيةً وسياسيةً مختلفةً، وذكر بأنه سيتعرّض لهجماتٍ إعلاميةٍ مركّزةٍ على قوله ذاك، وأشار إلى أنّه مسلم سُنّي، وأنه يطرح رؤيته انطلاقاً من ذلك.
هناك مشكلة كبيرة ترتبط بالدولة الصهيونية، التي تُعادي إدارة الشرع بشكل واسع، وتعمل على تقطيع سورية، ومنع أيّ إمكانية للنهوض، وهذا ما أشار إليه الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، بصيغة ما، عبر تقاسم الدولة الصهيونية وتركيا هذا البلد. المقصد هنا أن هناك سياسات عالمية وإقليمية، ترفض إدارة دمشق بشكلها الحالي، وعلى الأغلب، حتى لو تبنّت سياسات تشاركية مع الشعب، ولكن حجم التحدّيات الخارجية يفترض ألا يترافق مع تعميق الانقسامات الداخلية، وشهدناها مع تفجّر أحداث الساحل والمجازر فيه، ومع رفض كرديّ ودرزيّ للإعلان الدستوري من ناحية أخرى، وشعورهم بأنهم مقصيون عن المشاركة السياسية. هناك شعورٌ كبيرٌ لدى نشطاء ثورة 2011، والمعارضة بأن إدارة دمشق تُقصيهم، وتقرّب إليها من يدور في فلكها، ويتبنّى رؤيتها، وهذا هو التقييم للحكومة الانتقالية وللأشهر السابقة. يتّفق ما قاله الأصفري مع هذه الرؤية، وبالتالي، لا يكفي الإدارة الاستناد إلى شرعية ثورية آتية من قوّة الفصائل، التي قد تتقاتل في مرحلة لاحقة، فتذهب البلاد إلى حرب أهلية، تدفع إليها الدولة الصهيونية بكل قوتها. ولا يأتي رفض الاكتفاء هذا من عدائية للإدارة، بل من رغبة في ألا تفشل المرحلة الانتقالية، وتفشل سورية معها.
ثبُت فشل نهج الإدارة في الاستئثار والتفرّد في العلاقة مع الساحل، ومع الأكراد والدروز، والآن هناك خطر الانفجار المذهبي بين السلفيّين والأشاعرة، بين السُّنة أنفسهم
كانت حصيلة الأشهر السابقة تأزيماً للأوضاع الداخلية، وزيادة المخاطر الخارجية، وجرى تجاهل دفتر الشروط الأميركية، أو هناك محاولة للالتفاف عليه بشكل خاطئ. إن حساسية المرحلة الانتقالية، والانهيار شبه الكامل لأوجه الدولة والمجتمع السوري، يستدعيان الانطلاق من حاجيات هذا الداخل، وتبنّي سياسات تتوافق مع "شروط" الخارج، الإقليمي والدولي، الداعم، والاتجاه نحو سياسات وطنية بامتياز في قضايا النهوض بالدولة، والتراجع عن سياسات الاقتصاد الحرّ العشوائية، أو طرد مئات آلاف العمّال، الذين يتحوّلون قنبلةً أمنيةً قابلة للتفجّر في حال استمروا بلا مداخيل أو عيش كريم، وبلا حرّيات حقيقية.
لقد ثبُت فشل نهج الإدارة في الاستئثار والتفرّد في العلاقة مع الساحل، ومع الأكراد والدروز، والآن هناك خطر الانفجار المذهبي بين السلفيّين والأشاعرة، بين السُّنة أنفسهم. إن الابتعاد عن تحكّم الدين بالسلطة، وتبنّي سياسات وطنية (غير معادية للدين طبعاً)، وتبنّي النظام الديمقراطي والمواطنة، والعودة إلى عقد مؤتمر وطني عام، ويكون مصدراً لشرعية الأشكال السياسية كافّة للمرحلة الانتقالية، الحكومة والمجلس التشريعي وتأسيس الجيش والتوجّه الاقتصادي للدولة وكتابة الدستور... سيكون المؤتمر اللبنة الأولى لتخطّي التحدّيات الخارجية، ولإغلاق النوافذ التي تدخُل منها الشروط الخارجية، وتستقطب أطرافاً داخليةً راحت تشعر بأن سلطة دمشق تعاديها.