أيتام ترامب

أيتام ترامب

28 ديسمبر 2020
+ الخط -

بينما يتنفّس عديدون من قادة العالم الصعداء، مع اقتراب نهاية عهد دونالد ترامب، يشعر حلفاؤه وأشقاء روحه الشعبوية العنصرية في كل أصقاع المعمورة باليتم والفقد، من البرازيل إلى بولونيا وهنغاريا وسلوفينيا والشرق الأوسط وأماكن أخرى. لم يكن الرئيس الأميركي، ترامب، أوّل الشعبويين المتطرّفين، ولن يكون آخرهم. سبقه منذ عقود الفاشيون والنازيون والستالينيون والناصريون والبعثيون، وسبقته، منذ سنوات، الأحزاب اليمينية المتطرّفة في أوروبا من ماري لوبين في فرنسا إلى جاروسلاو كاتشينسكي في بولونيا. ولكن الدور الذي لعبه باعتباره أقوى رجل في العالم ورئيس أكبر ديمقراطية على هذا الكوكب كان الملهم والداعم والمبشّر لهم جميعا.
اليوم، وقد أقصى الأميركيون رئيسهم، بسبب فساده وعنصريته وإساءته للقيم الديمقراطية، بات القادة الشعبويون في العالم من دون نصير قوي. ولا يعني هذا، في أي حال، أن نهاية رئاسة ترامب هي مقدّمة لزوالهم، ولكنها بالتأكيد سوف تجرّدهم من دعم معنوي قوي، كان يعزّز مكانتهم، ويقوّي مناعتهم أمام التغيير. ومن المتوقّع، إلى ذلك، أن تغيّر الرياح الدولية مسارها بعد سقوط ترامب، وقد كانت في السنوات الأخيرة تسير في ركابهم. وليس من المستغرب إذن أن تكون نتيجة الانتخابات الأميركية المفصلية دليلاً آخر على أن "الموجة الشعبوية" التي كثر الحديث عنها في السنوات الأخيرة قد تبدأ بالانحسار.

لم يعترف الرئيس اليميني الشعبوي الذي استلهم كثيرا من سياسات ترامب، بولسونارو، بفوز بايدن إلا بعد ستة أسابيع من الانتخابات 

ولنذهب بداية إلى البرازيل، حيث لم يعترف الرئيس اليميني الشعبوي الذي استلهم كثيرا من سياسات ترامب، جاير بولسونارو، بفوز الرئيس المنتخب جو بايدن إلا بعد ستة أسابيع من انتخابات 3 نوفمبر/ تشرين الثاني. ولا مشاحة في أن هزيمة ترامب ستُرخي بثقلها على الزعيم البرازيلي الذي كانت شعبيته في ازدياد، على الرغم من الكوارث التي تحيق ببلده، وعلى الرغم من سوء إدارته أزمة وباء كورونا، فمن المرجّح أن يتخذ بايدن موقفًا أكثر صرامة تجاه برازيليا في مجالات مثل البيئة وحقوق الإنسان والتجارة، ما يجعل بولسونارو اليميني المتطرّف أكثر عزلة على الساحة العالمية، ما سينعكس على شعبيته داخل البلاد. 
كان بولسونارو يراهن حقًا على فوز ترامب، وقد صدمته النتيجة الساحقة التي ستدفع بترامب خارج البيت الأبيض. ونقل عن الرجل قوله ما بين الجدّ والهزل إنه ليس أمامه الآن خيار سوى أن يرمي خبير السياسة الخارجية المؤيد لترامب، فيليبي مارتينز، من نافذة الطابق الثالث إلى قارعة الطريق. وقد مثّلت نتيجة الانتخابات ضربة لمحاولة بولسونارو تأسيسَ اتجاه بولسوناروي، وهو مشروعٌ سياسيٌّ يميني متطرّف تم تصميمه بشكل وثيق على غرار الترامبية، والذي سوف يفقد على الأرجح الآن بعضا من زخمه، منهيا بالتالي ما أسمته المعلقة السياسية البرازيلية البارزة، إليان كانتانهيد، بأنه "حلم جنون العظمة" لبولسونارو لقيادة حملة صليبية يمينية دولية.

نتيجة الانتخابات الأميركية المفصلية دليل آخر على أن "الموجة الشعبوية" التي كثر الحديث عنها في السنوات الأخيرة قد تبدأ بالانحسار

ثم لننحدرْ إلى أوروبا، فنتوقّف قليلا في هنغاريا التي يتزعّمها رئيس الوزراء، فيكتور أوربان، الذي وصفه الخبير الاستراتيجي السابق لترامب، ستيف بانون، ذات مرّة بأنه "ترامب الذي سبق ترامب". لقد جمع كل بيضه في سلّة واحدة وأعطاها لترامب. وقف أوربان بقوة وراء الرئيس الحالي قبل التصويت، قائلاً إنه ليس لديه خطة بديلة في حالة خسارة ترامب. وأضاف في مكان آخر: "أنا مقتنع بأن الرئيس ترامب أنقذ أميركا المحافظة، وأصبح أحد أعظم الرؤساء الأميركيين؛ نتمنى له ولنا النجاح الكامل في انتخابه". ويدل هذا الموقف، أوّل ما يدلّ، على خرق الزعيم المجري الأصول الدبلوماسية، حيث يحاول الزعماء النأي بأنفسهم، ولو شكليا، عن التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، وبخاصّة الانتخابات. ولكنه يدلّ أيضا على موقف سياسي أخرق في المراهنة على رجلٍ أحرق كلّ مراكبه في مغامرةٍ سياسيةٍ كانت نهايتها واضحة لكثيرين. وتأكيدا لحماقته السياسية، قال أوربان إن دعمه ترامب يرجع جزئيًا إلى أن بلاده سئمت من تلقي المحاضرات من السياسيين الديمقراطيين في مجال حقوق الإنسان، مضيفا: "لم يعجبنا ذلك، ولا نريد مساعدتهم ثانية".
ولا غروَ أن البيت الأبيض في عهد ترامب قد قدّم دعمًا ضمنيًا حينا، وعلنيا حينا آخر، لحركات اليمين المتطرّف وقادته في هنغاريا. وقد أوفد ترامب صديقًا قديما له، هو قطب المجوهرات، ديفيد كورنستين، ليكون سفيراً في بودابست، وليتملّق نزوات أوربان، في وقت كان سفيره في ألمانيا، ريتشارد غرينيل، يخطط لـ "تمكين" قوى اليمين في جميع أنحاء أوروبا، ما أثار حفيظة مضيفيه الألمان، وكان أن اضطر للاستقالة في الصيف الماضي.
ويبدو من الطبيعي أن أولئك الزعماء الذين لا يريدون أن يتلقوا تقريعا بشأن سياساتهم في مجالات البيئة واللاجئين وحقوق الإنسان من الرئيس القادم، جو بايدن، يحتضنون الرئيس ترامب بقوة، ولا يرغبون في رؤيته يغادر البيت البيض.
انتظر معظم القادة الشعبويين النتائج أطول فترة ممكنة، قبل أن يهنئوا بايدن على مضض، أو ببساطة يظلوا هادئين. تأخّر أوربان في تهنئة بايدن خمسة أسابيع، كان خلالها تلفزيون حكومته يعيد ويزيد في اتهامات ترامب التي لا أساس لها إن الديمقراطيين سرقوا الانتخابات. وذهب رئيس وزراء سلوفينيا، يانيز يانشا، إلى أبعد من ذلك، حين أعلن صبيحة الأربعاء التالي ليوم الانتخابات في 3 الشهر الماضي (نوفمبر/ تشرين الثاني) فوز ترامب في الانتخابات لأربع سنوات جديدة. وكرّر ذلك على "تويتر" مرّات، وهو في ذلك يشبه ترامب، أو يتشبّه به، في عشقه الخاص هذه المنصة، بل إنه ساهم في نظرية المؤامرة، حين شكّك في توقيت الإعلان عن نجاح اللقاح الأميركي، ووصفه بأنه "مريب"، ولم يستبعد أن يكون قد تمّ حجبه عمداً حتى ما بعد الانتخابات.

ترامب كان عونا وسندا لنتنياهو والسيسي في مغامراتهما المريعة. ويبقى السيسي نسيجًا وحده في استخدامه شعبوية زائفة، لا أساس لها

وفي بولونيا، راهنت الحكومة بكل ما لديها على الحصان الخطأ. حزب القانون والعدالة، القومي البولندي، الذي يتولى السلطة منذ عام 2015، وثيق الصلة بسياسات ترامب فيما يخصّ الهجرة والعولمة، وكان سعيدا جدّا حين كانت إدارة ترامب تغضّ الطرف عن تفكيك هذا الحزب النظامَ القضائي البولندي بشكل ممنهج وقمع حرية التعبير في البلاد. وفي الآونة الأخيرة، شارك مئات آلاف من البولنديين، احتجاجا على القيود الحكومية المشدّدة على الإجهاض، في أكبر مظاهرات مناهضة للحكومة منذ سقوط الشيوعية. وسوف يُضعف رحيل ترامب من تماسك هذه الحكومة تجاه هذه القضايا كلّها. يقول الرئيس المنتخب، بايدن، إنه ملتزم بإعادة بناء العلاقات مع الاتحاد الأوروبي، ولكن هذا سيعني أن حكومة بولندا معرّضة لخطر تركها على جانب الطريق، إذ لم يعد لديهم صديق في البيت الأبيض الآن، ولا يوجد الآن شخصٌ يشبههم يتولّى مقاليد الأمور هناك. ولن يكون من الممكن لهم بعد الآن بناء شراكة استراتيجية مع الولايات المتحدة من خلال السياسة التي ينهجونها في بولندا، ما سيجعل حياتهم أكثر صعوبة، ومستقبلهم أكثر مدعاة للشكَ.
في منطقتنا نحن الكثير، ويمكن كتابة مقالات عن رئيس حكومة دولة الاحتلال بنيامين نتنياهو ووولي عهد السعودية محمد بن سلمان والرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وغيرهم. يستثير الأول، بشعبويته البغيضة، أسوأ ما في المواطن الإسرائيلي من نزعات عدائية تجاه الآخر الفلسطيني. والرئيس ترامب كان عونا وسندا للرجلين في مغامراتهما المريعة. ويبقى السيسي نسيج وحده في استخدامه شعبوية زائفة، لا أساس لها، في اعتدائه المستمرّ على الحريات الرئيسية وحقوق الإنسان.
يقول معهد الأبحاث السويدي تيمبرو (Timbro) إن الشعبويين الأوروبيين ضاعفوا حصتهم من الأصوات الانتخابية في جميع أنحاء أوروبا من 11.8٪ في عام 2001 إلى 22.3% في عام 2018. وليس من المبالغة القول إن نجاح ترامب وفلسفته في الحكم قد أسهما في السنتين الأخيرتين في زيادة هذه النسبة، ولكنّ هنالك بالطبع أسبابا أخرى قوية، منها البطالة المرتفعة واللامساواة في الدخل اللتان تنتجان أرضًا خصبة للأحزاب الشعبوية، فعسى أن تكون هزيمة ترامب حجر الدومينو الأول الذي قد انقلب، والذي ربما يوقع الأحجار التالية التي تتكئ عليه. لا جوابَ أكيداً اليوم، ولكن غدا لناظره قريب.

8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
8B0BB846-CF42-461B-9863-1B914FC64782
وائل السواح

باحث سوري في قضايا المجتمع المدني وحقوق الإنسان. عضو في المكتب التنفيذي لرابطة الكتاب السوريين ورئيس تحرير موقع "سيريان أبزرفر" ومسؤول تحرير في موقع الأوان.

وائل السواح