أيام كنّا نحلم بسعاد
(وفيقة سلطان)
كانت سُعاد توزّع هدايا ابتساماتها بعدل وحكمة وحشمة، ومودّة أيضاً لا لبس فيها، وكانت كلّ ابتسامة منها مباغتةً للأحبة، كلّ الأحبّة من بعيد هاموا بسعاد وفي ابتساماتها، وأوقفتهم حكمتها وحشمتها وأدبها الجمّ في المكان الذي رسمته هيَ، بمهارة ومودّة هادئةٍ من دون أدنى مبالغة منها أو خروج عن المألوف، حتى انتهت أيام محبّتهم من دون إيلام أو جروح.
انتهت سنوات محبّة الجميع من دون أن يفتحوا حتى الدفاتر التي كانت مليئةً بالأشعار، وكأنّ سعاد كانت تعرف ذلك، وتعرف قدرَها أيضاً، وكأنّها كانت تحترم كلّ قلب عن بعد من دون أن تمسّه بوجع ما، وكأنّها كانت من بعيد تلمس بأناملها قدرَها، فأحاطت بستانها بالورد القليل، وكأنّ كلّ محبّ لها كان يرى أن من نصيبه هذه الوردة أو تلك، أو ذلك الصباح الذي يخرج من فمها طرياً فيندّي خضرة حديقة الكلّية، وكأنّ كلّ محبّ كان يظنّ أن من حقّه أن يلمس كشكولها وحده حينما تعطيه في أدب لمن فاته تسجيل المحاضرة من وراء الدكتور، وقد أصابني أنا صاحب هذه الكلمات تمام سعدي، فأخذت الكشكول منها على سبيل إكمال المحاضرة من دون أن أكمل محاضرة ولا يحزنون، في الليل كانت عصافير كلماتها تزقزق في صدري ولم أكتب كلمةً واحدةً، حتى بان القمر من ضلفة شباكي القديم. وفي الصباح مات عبد الحليم حافظ، وكتبت أنا تلك الأبيات من الشعر أقلّد فيها رباعيّات بيكار، وجاءت هي الكليّةً بثوب أسود ونظّارة سوداء، وكم كانت جميلةً في حزنها.
سعاد، وبعد ذلك بسنوات عديدة، كانت تزورني في الأحلام بشجاعة محبّة أكثر ممّا كانت عليه بكثير، وخاصّة وأنا ما بين جبلَين وحيداً في عمان بالقرب من نزوى، هل لأنني ساعتها كنت أشتاق ابتساماتها، أمّ لأنها كانت كريمة وتتفضّل عليَّ لوحدتي، مثلما تفضّلت عليَّ بالكشكول، والغريب أنها جاءتني في حلم طويل وأمرتني أن أزرع حديقة منزلي الصغير بالنخيل، لأن والدها المهندس الكبير كان يشتل لهم النخيل بقريتهم بديروط، فغرست (أنا الفلاح العبيط) النوى الجافّة وسقيتها كثيراً على أمل أن ينبت النخيل، وزارني صديق، فحكيت له الحلم، فقال لي أرني نخيلك ياعاشق، فقلت له لم ينبت بعد، فمات من الضحك، وقال إن النخيل في جبالنا يشتل يا فلاح يا عاشق، فتخفّف قليلاً من أحلامك.
كانت سعاد تتكلّم في الحلم عن النخيل بجديّة، وتقول إن النخلةَ تحمل في عينيها طهارةً ما. في الصباح كنت أتعجّب من كلمة "طهارة"، وأقلّبها على وجوهها كافّة، وأيضا كلمة "عينيها"، حتى أنني أحسست أن النخلة تبكي، فهل كانت حقّاً النخلة هي التي تبكي أمّ سعاد؟
كثرت أحلامي بسعاد، وقد صارت كتباً كثيرة غير ممسوكة باليد أبداً، كتباً تهرب مني إلى هناك وراء الغيم، كتباً تخاتلني وأجري وراءها من دون الإمساك بها. أعرف كلّ عشّاق سعاد الظاهرين بالاسم، والغريب أنني أحترمهم جميعاً، أمّا مَن كان منهم خفيّاً، فظلّ لدي غائباً، كذلك النوى التي رميتها في جبال عُمان من دون أن يطرح بلحاً.
كلّ حكاية أرى فيها سعاد حلماً، يأخذني الصباح إلى سعادة ما، وأظلّ أبعثر الحلم وأفكّك فيه، ومرّة يأخذني الحلم إلى قصّة، ومرّة إلى رواية، ولا كتبت هذا ولا ذاك أبداً، حتى وإن كتبت الحلم أنساه في أوراقي ولا أرضى عنه أبداً، حتى وصلت سعاد إلى الستيّن من عمرها، وفي عيد ميلادها بمكان عملها، الذي كانت تعشقه أعطتني بالونةً حقيقيةً بيضاء بخيطها كانت معلّقةً، وقالت: "هذه لون قلبك"، وناولتني كوب الشاي.
كانت سعاد قد كبرت، وصديقتها التي كانت نحيلةً جدّاً، في أيام الجامعة، ولا تفارقها، صارت باهرة الجمال، ولكنّني كنت أتغزّل في رقبة سعاد الأولى التي كانت تمشي بها فوق نجيل الكلية في "بلوفرها" الأسود، الذي اشتريت منه كثيراً، كي لا تذوب منّي مع الأيام، وخاصّة بعد ما أبعدتنا السنوات.
كانت سعاد تبتسم تلك الابتسامة الخجول نفسها، التي التفّت أخيراً في عينيها بقشرة أسيانة من الماء، وكأنّه الدمع، من دون أن تتأكّد حقيقة هل هو دمع أم حزن، وبسرعة تزيحه عن عينيها بابتسامة، وتقول: "كلكّم، وكلّ العالم، أولادي".