أولويات المرحلة الانتقالية في سورية

12 يناير 2025
+ الخط -

كثيرة أولويات المرحلة الانتقالية التي تستدعي اتخاذ خطوات سريعة ومدروسة تساعد في الخروج من الوضع الكارثي في سورية، والتخلص من الخراب والدمار الكبيريْن اللذين أحدثهما نظام الأسد الاستبدادي، وطاول مختلف المستويات، الأمر يفرض على الإدارة الجديدة في سورية ترتيب الأولويات والعمل على إنجاز استحقاقات كثيرة، حيث ينتظر السوريون خطوات سياسية واقتصادية واجتماعية، تقطع من نهج الاستبعاد والإقصاء، وأن يكونوا شركاء في بناء مستقبلهم ومستقبل بلادهم. ولعل الخروج من الوضع الجحيمي الذي خلفه نظام الأسد يستدعي مساعدة دول الإقليم والعالم لتحقيق ذلك. وفي هذا السياق، أبدت دول عربية، منها قطر والسعودية والأردن، استعدادها للتعاون مع الإدارة السورية الجديدة من أجل تعافي البلاد، ومساعدتها في تأمين حاجيات السوريين المعيشية، وإعادة إعمار ما دمره نظام الأسد، ودعم مشاريع التنمية، وكذلك فعلت تركيا، فيما ما تزال دول عربية أخرى تنظر بعين الريبة وتتوجس حيال ما جرى في سورية، ويسكنها الشك حيال نيات الإدارة الجديدة، على خلفية خشيتها من التأثر بالنموذج السوري في التغيير، ومن ممكنات نجاحه وانتقاله إليها.

الأرجح أن الدول العربية التي أبدت استعدادها لدعم الإدارة الجديدة تريد، ليس فقط أن تكون حاضرة في سورية، بل مساعدتها كي تعود إلى المنظومة العربية وإلى الحضن العربي كما يقال، وربما أعطتها تجربة العراق درساً أن إهمال الوضع في سورية سيقودها إلى الابتعاد عن حاضنتها العربية. لكن اللافت هو أن الإدارة الجديدة تعي أهمية انخراط سورية في محيطها العربي، بالنظر إلى إدراكها الحاجة إلى دور الدول العربية في الإسهام لتذليل تحديات وعقبات المرحلة الانتقالية، لكن هذا الإسهام لا يمكن لها أن يختصر في الدعم الاقتصادي، بل يتجاوزه إلى الدعم السياسي، والعمل من أجل رفع العقوبات الأميركية والأوروبية. وهذا يتطلب من الإدارة الجديدة تقديم خطط للوصول إلى حكم تمثيلي جامع، لذلك أرسلت وفداً رفيع المستوى، تمثل في وزيري الخارجية والدفاع ورئيس الاستخبارات إلى عدد من الدول العربية من أجل توضيح توجهات الإدارة على المستوى الداخلي، وتطمين الجميع بأن مرحلة الثورة قد انتهت بسقوط نظام الأسد، وبدأت بعدها مرحلة بناء الدولة، التي تريد العيش في سلام ووئام مع جوارها والعالم، وأنها ليست في وارد تصدير الصورة مثلما بدأت إيران بفعله منذ عام 1979. لذلك من الأهمية ألا تضيع الدول العربية الفرصة في تقديم المساعدة المطلوبة، لكي تكون سورية عامل استقرار في المنطقة، ولا تنتج نظاماً يفتعل الأزمات مثلما كان نظام الأسد مع جواره.

الإدارة الجديدة تعي أهمية انخراط سورية في محيطها العربي، بالنظر إلى إدراكها الحاجة إلى دور الدول العربية في الإسهام لتذليل تحديات وعقبات المرحلة الانتقالية

أما دول الغرب، ممثلة بالولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا، فقد رحبت بسقوط الأسد، وتعاملت مع الإدارة الجديدة بوصفها سلطة أمر واقع، وطالبتها بتشكيل حكم تمثيلي شامل، لكنها ركزت على ضمان حقوق الأقليات، والانخراط في محاربة الإرهاب، ولم تخفِ تدخلاتها واشتراطاتها التي وصلت إلى حدّ مطالبتها بألا يكون هنالك أي تواجد لإيران وروسيا في سورية المستقبل. ولم تقم بأفعال سوى إرسال وفود إلى دمشق، ومنحت سلطتها الجديدة اعترافاً دولياً مشروطاً، فيما أعلنت وضعها تحت المراقبة، ولعل الخطوة الفعلية الوحيدة التي اتخذتها تمثلت في أن رفعت الولايات مؤقتاً وجزئياً العقوبات الاقتصادية الأميركية، وخصت به الطاقة والكهرباء والمياه والتحويلات المالية الشخصية.

على مستوى الداخل، تبرز أولوية بناء مؤسسات الدولة السورية، بوصفها ركيزة للأمن والاستقرار، إلى جانب أولوية إعمار ما قام بتخريبه النظام السابق في حربه التي دامت أكثر من ثلاث عشرة سنة على الشعب السوري، وتشمل إعادة بناء البنى التحتية، وتأمين الخدمات الأساسية، وتسهيل سبل العيش ومتطلباته، وتوفير البيئة الملائمة التي تسمح لأكثر من نصف أبناء الشعب السوري بالعودة إلى أماكن عيشهم التي هجروا قسراً منها.

غير أن أولوية بناء المؤسسات وإعادة الأعمار وتأمين حاجيات السوريين المعيشية لا تعني صرف النظر عن الجانب السياسي، وبما يعكس التغيير السياسي الشامل الذي بدأ في 8 ديسمبر/ كانون الأول، عبر النظر في أولوية تشييد حكم تمثيلي وشامل لمختلف مكونات المجتمع السوري وقواه الحية السياسية والاجتماعية والاقتصادية. وهنا تبرز أهمية المؤتمر الوطني المزمع عقدها في المدى القريب، حيث شكلت الإدارة الجديدة لجنة تحضيرية لعقد مؤتمر وطني جامع لكل مكونات المجتمع السوري، الذي سيعلن فيه حلّ هيئة تحرير الشام والفصائل المسلحة الأخرى التي ستنخرط في مؤسسة الجيش، وسيتم فيه تشكيل حكومة كفاءات، وحل البرلمان، وإيقاف العمل بدستور عام 2012. إضافة إلى تشكيل لجان قانونية وحقوقية من أجل كتابة دستور جديد، تمهيداً لإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية.

هناك ضرورة لوضع معايير واضحة لإعادة تشكيل هياكل السلطة، وإنتاج مؤسّسات يقودها سوريون يتمتعون بأوسع صفة تمثيلية

لعل من بين الأولويات أيضاً هو أن تعمل الإدارة الجديدة على معالجة آثار الاستبداد، وتسيير أمور المجتمع المرحلة الانتقالية لما بعد سقوط بشار الأسد، بما يعني القيام بتحقيق العدالة الانتقالية، وإجراء مصالحة وطنية، وفق آليات قانونية مدروسة، بعيداً عن لغة الإقصاء والاستئصال، وتوفير التشريعات والإجراءات الكفيلة بإعادة بناء سورية جديدة على أسس المواطنة والتعددية. إضافة إلى تحقيق تطلعات السوريين ومراعاة مصالحهم، من خلال اعتماد طرق تمثيل متنوعة في كل هيئات الحكم ومؤسسات الدولة، وبما يضمن تمثيل مختلف مكونات المجتمع، السياسية والاجتماعية، والاستماع إلى وجهات النظر السياسية لكل القوى السياسية، تمثيل كل القوى الحية والاستفادة من الآراء المعبرة عنها، وسد الثغرات التي يمكن أن تفضي إلى زعزعة الاستقرار أو الانزلاق إلى توترات مجتمعية.

تقتضي حساسية المرحلة الانتقالية ضرورة وضع معايير واضحة لإعادة تشكيل هياكل السلطة، وإنتاج مؤسّسات يقودها سوريون يتمتعون بأوسع صفة تمثيلية ممكنة، بغية تحقيق معادلة استعادة السوريين بلادهم، والسير نحو الاستقرار السياسي، وبما يشكل عامل جذب للمستثمرين ورؤوس الأموال. وإن كان ثمة أولويات مستعجلة تتلخص في توفير الحاجيات المعيشية، إلا أن ذلك لا يعني تغييب ضرورة المزامنة بين الأولويات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، وألا يغلب الجانب الاقتصادي والمعيشي على السياسي.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".