أولئك البؤساء المساكين

أولئك البؤساء المساكين

05 أكتوبر 2020

(لؤي كيالي)

+ الخط -

يفرّق فيسلوف الحرية والعبث، سارتر، بين الفقر والبؤس، فيقول إن الفقر حالة اقتصادية صعبة، يترتب عليها شظف العيش وتؤدّي بالمرء الى اليأس. أما البؤس فمجرّد حالة نفسية يعاني منها بعضهم... سوف نصدّق مقولة سارتر هذه، حين نصطدم بنماذج من البشر قد يعتبرها الناس قبيحة وغير محتملة، ويوصف الواحد منهم بالشخص البائس، يمتلكون من الموارد ما يحفظ كرامتهم، يحظون بنمط حياة مريح وآمنٍ، لا ينقصهم شيء على المستوى المعيشي سوى إبداء بعض الامتنان والتقدير والإقرار بسخاء الحياة، يزعمون تعاطفا إنسانيا لا يتعدّى حدود الألفاظ مع المحتاجين، وهم، في واقع الأمر، بالتعريف الدقيق لكلمة البخل، عاجزون بالمطلق عن العطاء والمشاركة الحقيقية. تتميز شخصياتهم بالسخط والغضب والحنق، وقد يصل بهم الأمر إلى ارتكاب أفظع الجرائم، يراكمون مشاعر الغيرة والحقد التي تعتبر مفاتيح لشخصياتهم الضئيلة، غير القادرة على تذوق الجمال وإتقان المحبة. في العادة، يسبب مثل هؤلاء النفور لمن يعرفهم، فيخفقون تماما في حياتهم الإجتماعية، يعيشون جل حياتهم منبوذين غير مرغوب بهم، لفجاجة حضورهم وعدوانيتهم المجانية وألسنتهم السليطة، وسطحية آرائهم التي يتمسّكون بها من باب الاستعراض الغبي، تغطية مكشوفة على ضحالتهم وفشلهم الإنساني الذريع في اكتساب محبة المجموع واحترامه.
هؤلاء المنكوبون بذواتهم لا يستحقون سوى الرثاء والشفقة على الرغم من كل شيء، ذلك أنهم مجرّد ضحايا في نهاية الأمر، أشخاصٌ حرموا منذ الطفولة من مشاعر الحب الحقيقية، فلا أمّ تغمُر الفرد منهم بالحنان والعطف. قال أحدهم إنه لا يذكر أن أمّه احتضنته يوماً، أو أسمعته كلمات حبٍّ، أو أوصلت له مدى اكتراثها به، ذلك أنها لم تكن أمّا بالمعنى التقليدي للكلمة. ولذلك يقرّ بتقشّف روحه وجفافها، ولا ينكر ظمأه الأبدي إلى نيْل الإقرار والاعتراف من الآخرين ولو بالقوة، وبعضهم ابتلي بأبٍ متجبر ظالم، الأبوة لديه إلقاء الأوامر والحطّ من شأن صغاره وتوجيه الإهانات لهم من باب التربية وفرض الهيمنة الأبوية، فينشأ الواحد منهم في حالة قهر وغيظ كامن تترجم إلى سلوكيات عدائية. يخوض مراحل حياته، كما لو كان في حربٍ طاحنة، يسبب الأذى لكل من حوله، محاولا مداراة إحساس متأصّل بالدونية، يقوده لاوعيه إلى الاقتصاص حتى ممن أغدق عليه الحب والاحترام، كونه ليس معتادا إلا على المعاملة غير الإنسانية التي تسبّب جراحا وتشوّهاتٍ سوف ترافقه إلى آخر أيام حياته. 
ولكن دائما، وفي عمق العتمة، ثمّة فرقة ناجية، قادرةٌ على تجاوز الأسى تمتلك الجرأة على مواجهة الذات والإقرار بعيوبها الجسيمة، ومحاولة إصلاح ما أفسده الدهر، إيمانا بقدرة العطّار على إحداث فرق، تتصالح مع ذاتها أولا، وتقرّ بنقاط ضعفها الإنساني، وتحاول أن تغفر لمن أفسد طفولتها، ولقّنها ثقافة الحقد والكراهية أدوات دفاع بائسة في معركةٍ وهميةٍ من صنع خياله. يحتاج الأمر إلى لحظة صدق حقيقية ووقفة شجاعة مع النفس ومكابدتها بإخلاص، سعيا إلى التخلص من صفاتها المنفّرة، والكفّ عن كراهية الذات، وتعلم احترامها بما يكفي أن يجنّبها الوقوع في شرك الأذية. الأمر ليس بهذه الصعوبة، لأن صفاتنا السلبية ليست ثوابت قدرية. علينا أن نظل أسرى لقوانينها، نحن في حالة تجدّد دائم، خلايانا، أفكارنا، مشاعرنا. لا شيء يبقى على حاله، يستطيع الشخص الواعي صاحب الإرادة الحرّة كسر الحلقة، ومواجهة الحياة بروح مختلفة، يعزّز فيها قيما نبيلة، لم يحظ بها مبكرا لسوء حظّه. عليه أن يتقن المحبة والتسامح، وأن يحبّ نفسه، ويحرص عليها، خطوة أولى في طريق الشفاء. 
يتكّئ بعضهم على مقولة "فاقد الشيء لا يعطيه"، والحق أن فاقد الشيء يتعافى ويتحرّر كليا حين يعطيه بسخاء وبدون حساب.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.