أوكرانيا وفلسطين وخيول السياسة تقود عربة القانون

أوكرانيا وفلسطين وخيول السياسة تقود عربة القانون

22 مارس 2022
+ الخط -

اتّسمت الاستجابة الدولية للغزو الروسي لأوكرانيا بالسرعة والنجاعة والتنسيق المُحكم بين حكومات الدول والمنظمات الدولية الحكومية وغير الحكومية، ووسائط الإعلام والرياضة والفنون والثقافة. ولقد أكّدت استجابة أوروبا وأميركا للعدوان الروسي أنه، حين تحضر الإرادة السياسية، يصبح كل شيء ممكنا، فحتى المحاكم الدولية التي اشتُهرت بشدة بطئها وخمولها، تحرّكت بسرعة مثيرة للإعجاب والاستغراب.
أطلقت مؤسّسات العدالة الدولية صفّارات الإنذار مع بداية الغزو الروسي، وفي أقلّ من ثلاثة أسابيع، استجابت محكمة العدل الدولية، الجهاز القضائي الرئيسي للأمم المتحدة، لدعوى أوكرانية تتهم روسيا بالتلاعب بمفهوم جريمة الإبادة الجماعية لتبرير اجتياحها، وتطلب من المحكمة إصدار أمر بوقف عدوان موسكو، في إطار ما تعرف بـ "التدابير المؤقتة". وعند إصدار حُكمها الذي أَمَرَ روسيا بوقف جميع عملياتها العسكرية على الفور، أكّدت رئيسة المحكمة، الأميركية جوان إي دونوهي، استيفاء الشروط التي تخوّل للمحكمة الإعلان بأنه لم يحدث ارتكاب إبادة جماعية في أوكرانيا، ولم توجد "حالة الاستعجال" التي برّرت بها روسيا عدوانها.
ولا يملك متتبع مجرى العدالة الدولية في أوكرانيا إلا أن ينبهر بسرعة فتوى المحكمة في موضوع الإبادة في حوالي أسبوعين، وتفعيلها البند التاسع من "اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها"، التي صدّقت عليها 152 دولة منذ اعتمادها قبل 73 عاما. ولم تفعّل أية دولة هذه الاتفاقية، حين كان المدنيون يخضعون لجرائم الإبادة في رواندا أو سربرنيتسا في البوسنة. أما في ميانمار (بورما سابقا)، فقد استمرت إبادة مسلمي الروهينغا حوالي نصف قرن، وطبّق النظام سياسات وقوانين لاجتثاثهم من المجتمع، فصَادَرَ بطاقات التسجيل الوطنية وجرّدهم من جنسيتهم، وحوّلهم إلى "مهاجرين بنغال غير شرعيين"، وطاردهم وقتل منهم آلافا، قبل أن يطردهم بالقوّة من البلاد، مشرّدا أزيد من مليون شخص، تحوّلوا إلى لاجئين بئيسين في مخيمات بنغلاديش.

لم تكن مساءلة روسيا واردة قبل اجتياحها أوكرانيا، وتحرُّك الدول الغربية لمعاقبة موسكو

تفرّج "العالم المتحضر" على الإبادة البطيئة والموثّقة لمسلمي الروهينغا، ولم تكترث لوضعهم الدول المسلمة الموقعة على اتفاقية الإبادة أيضا، وانتصرت لهم دولة غامبيا الصغيرة والفقيرة، حين رفعت دعوى قضائية في أواخر 2019، تتهم نظام ميانمار بارتكاب أمّ الجرائم. وبدل أن تحقّق العدالة، زادت محكمة العدل الأممية في تعطيلها، وأوجدت جدلا واسعا في بداية العام الجاري بسماحها للمجلس العسكري الذي قاد انقلابا العام الماضي على حكومة الوحدة الوطنية المنتخبة، بأن يمثل ميانمار. وبهذا، أضفت على الانقلابيين المُشْرفين على إبادة الروهينغا الشرعية التي رفضت الجمعية العامة للأمم المتحدة وباقي أجهزة المنظمة أن تمنحهم إياها، وسحقت بذلك حظوظ تحقيق الحد الأدنى من العدالة لمنبوذي نظام ميانمار العنصري.
وغير بعيد عن مقرّ محكمة العدل الدولية، في لاهاي، لا يختلف وضع العدالة الدولية كثيرا، في المحكمة الجنائية الدولية. عندما تولّى البريطاني كريم خان مهام المدعي العام في المحكمة في منتصف يونيو/ حزيران 2021، كان يُفترض أن يطلب من قضاة الغرفة التمهيدية الحصول على إذنٍ بفتح تحقيق في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية ارتكبتها مختلف أطراف النزاع في أوكرانيا منذ 2014، حسب نتائج فحص أولي توصل إليه مكتب الادعاء في ديسمبر/ كانون الأول 2020، بعد خمس سنوات. لم تكن مساءلة روسيا واردة قبل اجتياحها أوكرانيا، وتحرُّك الدول الغربية لمعاقبة موسكو. في اليوم الثالث للغزو الروسي، أعلن خان عن عزمه الشروع في التحقيق في الجرائم المرتكبة في أوكرانيا، ثمّ طرح مشكلة الوقت الذي قد تستغرقه عملية الحصول على إذنٍ للتحقيق من قضاة الغرفة التمهيدية. وللالتفاف حول شرط الإذن، طَلَبَ من الدول الأطراف في نظام روما، المؤسس للمحكمة الجنائية الدولية، أن تحيل مسألة أوكرانيا إلى مكتبه، بما أن كييف ليست دولة طرفا، ولا يمكنها إحالة الملف بنفسها.

حماسة المدعي العام كريم خان تجاه تحقيق العدالة في أوكرانيا يقابلها صمته المطلق إزاء فظائع إسرائيل في فلسطين

في غضون أيام، وصلت إلى خان 41 إحالة من دول جلّها غربية، محطّمة بذلك الرقم القياسي لعدد الإحالات في قضية واحدة في عقدين من عمر المحكمة. فتح خان التحقيق في وقت قياسي أيضا، ثم زار أوكرانيا يوم 16 مارس/ آذار ليطلق التحقيق على الأرض، ويبعث رسالة قوية إلى روسيا، مفادها بأنه إذا تعمّدت هجماتها استهداف السكّان المدنيين والمرافق المدنية في أوكرانيا، فإن المحكمة الجنائية ستلاحق الجناة بلا شك. سيصطدم التحقيق بصعوبة إثبات نوايا موسكو، وبأن روسيا ليست طرفا في المحكمة، ولن تسلّم جنودها أو قادتها بمحض إرادتها لمحكمة لاهاي. لكن سيف المحكمتين المعلّق على رقبة الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، يجعله يفكر مرتين قبل تحريك دباباته ومدفعياته وقذف صواريخه وقنابله في أوكرانيا.
حماسة المدعي العام تجاه تحقيق العدالة في أوكرانيا يقابلها صمته المطلق إزاء فظائع إسرائيل في فلسطين، رغم توالي تقارير كبرى المنظمات الحقوقية الدولية، موثّقة بما لا يترك مجالا للشك جرائم الاستيطان والتطهير العرقي والأبارتهايد. لقد انقضت تسعة أشهر على تولّي خان التحقيق في ملف فلسطين، ولم ينطق بحرف عن جرائم إسرائيل، هو الذي لا تنقصه الجرأة والفصاحة في اتخاذ مواقف مثيرة للجدل، كاستثنائه أميركا من التحقيق بجرائم حرب ارتُكبت في أفغانستان، وانتقائه التحقيق في جرائم حركة طالبان وتنظيم الدولة الإسلامية - ولاية خراسان في سياق الانسحاب الأميركي، بدعوى أنها تشكل "أسوأ الجرائم من حيث الخطورة والنطاق والمدى". تشجيع خان واشنطن على الإفلات من المساءلة يذكّر بمقولة نعوم تشومسكي: "لو استمر تطبيق قوانين نورمبرغ بعدالة وانتظام، لتمّ شنق كل من تناوب على رئاسة أميركا بعد الحرب العالمية الثانية".

على الرغم من واقع القانون الدولي، بإمكان الفلسطينيين تحريك عربته، بمواصلة النضال والضغط على السياسيين في أميركا وأوروبا

بعد ثلاثة عشر عاما على وضع ملف فلسطين على رفوف المحكمة الجنائية، لم يزد ملخص عمل مكتب خان بشأن التحقيق على هذين السطرين ونصف السطر في تقرير أنشطة المحكمة الجنائية للفترة 2020/2021: "في 3 مارس/ آذار 2021 أعلن مكتب المدّعي العام فتح تحقيقات في الحالة (فلسطين). ويٌقَيّم المكتب أفضل السبل لمواجهة التحدّيات في هذه الحالة مع مراعاة الحالة التشغيلية والقدرة على توفير الموارد، ويقوم على استكشاف سبل تأمين التعاون". بعبارة أخرى، بعيدا عن لغة الخشب الأممية، لم يحرّك خان ساكنا، ولا يعتبر التحقيق في ملف فلسطين ضمن أولوياته نظرا إلى شحّ موارد المحكمة، ورفض إسرائيل التعاون معها، ولحرص الدول الأطراف، ذات وزن مالي وسياسي داخل المحكمة وخارجها، على عدم الاصطدام مع إسرائيل. وبهذا، يفقد القانون الدولي معناه حين يطبق بانتقائية، حسب إرادة صناع القرار السياسي، أي واشنطن وأقرب المقرّبين إلى دائرتها.
وبينما يجري الحديث عن إنشاء محكمة خاصة للنظر في الغزو الروسي باعتباره جريمة عدوان، فقد برهن سلوك المحكمة الجنائية ومحكمة العدل الدوليتين، منذ بداية العدوان الروسي على أوكرانيا، أن القانون الدولي يخضع للإرادة السياسية للدول التي تنشئ هذه المحاكم، وتموّل عملها وتتحكّم في تعيين مدّعيها وقضاتها ومحاميها، وتحدّد من يخضع لإنفاذ القانون الدولي ومن يَنْفُذ منه. لقد كشفت الحرب لمن يحاول حجب الشمس بغربال أن القانون الدولي أداة تحرّكها السياسة، ويحكمها ميزان القوى بين الدول، وهو بذلك يشبه العربة التي لا يمكنها التحرّك من تلقاء ذاتها، وتحتاج قوة دفع، خيولا كانت أم بغالًا. وعلى الرغم من واقع القانون الدولي، بإمكان الفلسطينيين تحريك عربته، بمواصلة النضال والضغط على السياسيين في أميركا وأوروبا عبر إقناع الرأي العام الدولي بأن إسرائيل منظومة الأبارتهايد والتمييز العنصري.
ولقد لخص عزمي بشارة علاقة القانون بالقوة في إحدى تدويناته: "لا يوجد مثل الشعب الفلسطيني من يعرف ان القانون الدولي إذا لم يوجد من لديه القوة ليفرضه أو يطبقه يصبح مجرّد كلام يردده السياسيون والحقوقيون في غياب استراتيجية تستند إلى قوة من نوع ما (حتى لو لم تكن عسكرية) ومن لديه القوة لا يحتاج أصلا إليه، فهو لا يفيد الضعيف ولا يُلزم القوي".

D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
D3DB8A51-4A38-4CFE-8FF7-F3890E6C424F
عائشة البصري
كاتبة وإعلامية مغربية، ناطقة سابقة باسم بعثة الاتحاد الأفريقي والأمم المتحدة في دارفور وحائزة على جائزة رايدنهاور الأمريكية لكاشفي الحقيقة لسنة 2015.
عائشة البصري