أوكرانيا .. بماذا تفكّر روسيا؟

أوكرانيا .. بماذا تفكّر روسيا؟

26 ديسمبر 2021
+ الخط -

خرج الاتحاد السوفييتي من الحرب العالمية الثانية وهو يدرك أن العالم الغربي يعتبره الخطر القادم، بعد أن تم القضاء على ألمانيا النازية.. كانت لدى ستالين مساحة جغرافية استولى عليها الجيش الأحمر، ويمكنه أن يناور على المدى الطويل للاحتفاظ بمملكته بعيدا عن براثن الغرب، فبنى جدارا ديمغرافيا وجغرافيا يفصل موسكو عن العالم الغربي، ويمتد شاقوليا قاسما أوروبا إلى شطرين كبيرين، يبدأ من أقصى الشمال على الحدود الجنوبية لبحر البلطيق بجمهوريات أستونيا ولاتفيا وليتوانيا، ويهبط إلى الأسفل عابرا بولونيا وجمهوريتي التشيك وسلوفينيا، بعد أن يكون قد قضم ربع مساحة ألمانيا تحت مسمّى دولة جديدة هي ألمانيا الديمقراطية، متابعا نزوله نحو هنغاريا، ومحتفظا بأصابع طويلة في يوغوسلافيا، حيث يصل مدى نفوذه إلى الشواطئ الشرقية للبحر الأدرياتيكي، مشرفا على طول الساحل الإيطالي. رضي الغرب بهذا الفاصل، وحافظ على صمتٍ مشوبٍ ببعض الغمغمة، وقد كان متوجّسا من هجوم سوفياتي، ويرغب بترك مسافة أمان تؤمن له فترة استعداد كافية. لعبت دول شريط الأمان دور الحاجز الطبيعي بين المعسكرين، رغم تبعيتها للمعسكر السوفييتي، وتبنّيها الأيديولوجي كل نظرياته، من دون أن تتغلغل الشيوعية فيها إلى عمقٍ كافٍ يكفل ترسيخها طويلا، لأنها سرعان ما انهارت لديها دفعة واحدة عندما تفكّك الاتحاد السوفييتي نفسه، وأصبح من الضروري إعادة التموضع الجغرافي واللوجستي مرة أخرى، واستطاعت روسيا الخروج من فترة تخبّطٍ دامت عشرة أعوام، تمخضت عن ظاهرة تدعى فلاديمير بوتين الذي لعب دور الأيديولوجية الروسية الحالية الجديدة، وهي نوعٌ من أحلام الإمبراطورية السابقة مع قشور ديمقراطية، جوهرها الحقيقي التمسّك الأمني بالسلطة.
تلاشى الجدار القديم وأحدث انهيار الأيديولوجيا منظومة جديدة، طرفاها الرئيسيان الأعضاء السابقون، أي روسيا والغرب، ولا بد من جدار بمسمّى جديد وشكل مختلف. تخلت روسيا عن جمهوريات البلطيق وكل أوروبا الشرقية، وانتقل محور الجدار ليمرّ من بيلاروسيا وأوكرانيا وصولا إلى البحر الأسود، وهما جمهوريتان تنتميان إلى الإرث السوفييتي القديم. وفيما تهاوت دول الطوق السابق في أحضان الغرب، ودخلت بتفاوتٍ زمني في عضوية حلف الناتو، المشكّل أساسا لمواجهة الاتحاد السوفييتي السابق. وبقيت بيلاروسيا وأوكرانيا متردّدتين وخائفتين، وتنتابهما رغباتٌ متعارضة. حسمت بيلاروسيا موقفها بشكل مبكّر، وانحازت كليا إلى بوتين، وتصرّفت مثل التابع المطيع في وجود ألكسندر لوكاشينكو في موقع الرئاسة منذ العام 1994، فيما تمرّدت أوكرانيا، ولفظت الرئيس الموالي لروسيا عبر ثورة سميت ثورة البرتقال، ولكن الغرب لم يفعل ما هو مطلوب منه ليضمن لنفسه أوكرانيا بعيدةً عن التيارات الروسية، فعاد حلفاء موسكو إلى قيادة الدولة إلى أن سقطوا فيما يشبه الانقلاب عام 2014.
لم يرغب بوتين بترك فجوة بينه وبين الغرب في أوكرانيا، فأثار إقليم دونباس في الشرق المكوّن من محافظتي لوهانسك ودونتسك التي كانت تعرف سابقا بـ"ستالين"، ويعرف بوتين أن خسارة أوكرانيا تعني إيجاد فجوة مخيفة مع الغرب، يمكن أن تعمل عمل ثقب أسود يوقع روسيا كلها في مرض التفكّك، وهو يدرك أيضا أن الاحتفاظ بها كاملة مستحيل. لذلك يراهن على إقليم دونباس، ليكمل الحاجز الجغرافي مع الغرب، ويبدو بوتين مستعدّا لدخول حربٍ كي لا يخسره، وقد رفع مستوى الجدية بإرساله مجموعة كبيرة من الجنود إلى الحدود، محاولا الحصول على ضماناتٍ تكفل بقاء الوضع في أوكرانيا على ما هو عليه، مع الحفاظ على كل المميزات التي حصل عليها في السابق، كشبه جزيرة القرم ونفوذه الكبير في مقاطعات الشرق، وهو أمرٌ قد يتفهمه الغرب لاعتبارات خاصه به أيضا. أما الحل الذي سيوافق عليه بوتين والغرب، من دون الدخول بمواجهة فهو على حساب أوكرانيا مرة أخرى، وقد فقدت في المرّة الأولى شبه جزيرة القرم، والآن من الممكن أن تخسر إقليم دونباس كله.