أوروبا والفيل الأسير

أوروبا والفيل الأسير

01 يوليو 2022
+ الخط -

يدور حديثٌ في الغرب خصوصاً، عن أساليب التعاطي الأوروبي مع الغزو الروسي لأوكرانيا، وسط تقاطع آراء عديدين بشأن "تبعية أوروبا للولايات المتحدة"، لا في سياق الاتهامات الروسية لها بتحوّلها إلى كومبارس في المعسكر الأميركي فحسب، بل أيضاً في إطار محاولة رسم استراتيجية للخروج من هذه العباءة. ويستدّل أصحاب هذا التفكير بتكرار القبول الأوروبي بأي مقترح أميركي، فضلاً عن عدم إبداء أي معارضة كافية حيال أي مسألة. بالتالي، هل أوروبا فعلاً في مرحلة تراجع قد تؤدّي إلى وفاتها إكلينيكياً وتفكّكها بشكل جذري، لتتحوّل إلى "ساحة خردة" في صراع متجدّد بين الأميركيين والروس؟

لا يُمكن الجنوح بعيداً في مثل هذه النظريات. التاريخ الأوروبي زاخر بالحروب، لكنه أيضاً مليء بالتجدّد، وهو سمة أوروبية أكثر مما هو أميركية. والتجدّد الأوروبي نابع من تليين الحكم في كل بلد، لمصلحة تجديد البنية السياسية وديمومة النظام. صحيحٌ أن الأرقام لا تُخطئ، خصوصاً المتعلقة بالتضخّم الاقتصادي والبطالة وتوقعات النمو والركود وتعثّر سلاسل التوريد، إلا أن الأوروبيين يعلمون أن البديل عن أي محاولةٍ لضبط الأوضاع هو تدهور عارم في سياق القانون والنظام. ويدرك سياسيو الاتحاد الأوروبي أن مجرّد التفكير في شتاء 2022 ـ 2023، من دون تأمين بدائل كافية عن مصادر الطاقة الروسية، يُسبّب ألماً فظيعاً في الرأس. لكنهم، في المقابل، يعلمون أن الوقوف جانباً للبكاء، من دون التصرّف، سيشرّع الأبواب أمام تنامي التيارات المعادية لفكرة "الوحدة الأوروبية"، وصعود القوميات المتناحرة، وتهاوي العواصم الأوروبية فرادى أمام أي زحفٍ عسكري روسي، في حال تمكّنت موسكو أساساً من السيطرة على كييف.

هنا، لا يُمكن الاعتقاد أن الأوروبيين يتجاهلون الوقائع والتحوّلات، تحديداً بعد أن تجاوزوا "صدمة" الغزو الروسي، واستوعبوا فكرة عودة الحرب إلى قارّتهم بعد أكثر من عقدين على الحروب اليوغوسلافية. ومبدأ تطوير الجيوش الأوروبية، تحديداً في ألمانيا، ليست عفويةً بالمعنى السياسي، إذ يدور الحديث، منذ نحو عقدٍ، على ضرورة إنشاء "جيش أوروبي"، أو أقله جيوش فردية بميزانيات أعلى. وضع الأوروبيون الاهتمام بالشؤون العسكرية جانباً، حتى "يحلّ الوقت المناسب"، أي 24 فبراير/ شباط الماضي، تاريخ قصف الانفصاليين الأوكرانيين، بدعمٍ من الجيش الروسي، مواقع القوات الأوكرانية في الشرق الأوكراني.

تطوير الأذرع العسكرية للأنظمة الأوروبية سيُساهم، وفقاً لتصوّر هذه الأنظمة، على تمرير إفرازات الغزو الروسي لأوكرانيا بأقلّ ضرر ممكن. الأوروبيون يفكرون باحتمال انتشار الأسلحة بين أيدي العصابات في الدول الأوروبية، ويتعاملون مع فكرة غلاء الأسعار المتزايد، والنقص في مصادر الطاقة، مدركين أن روسيا تحاول الإمساك بهم، ودفعهم إلى الاعتقاد بأن لا بديل عنها. يعلم الأوروبيون أن ترك الأمور تجري من دون ردّ حقيقي، والاكتفاء برد فعل، لا فعل، في السياقات الاقتصادية، ومواصلة فرض العقوبات ودعم أوكرانيا في السياقات السياسية ـ العسكرية، من دون تكبيد الروس هزائم متلاحقة، سيؤدّي إلى تصدّع أنظمتهم. ومن بعدها سيدفع التأثير التعاقبي إلى تدهور أحوال المجتمعات الأوروبية وعودتها إلى تجمّعات قومية متقاتلة.

يعلم الأوروبيون ذلك، وهو ما يدفعهم إلى التحرّك أكثر باتجاه التخلّص من مصادر الطاقة الروسية، للتحرّر من جارِ شرقي مزعج، يفرض عليهم شروطه. والرئيس الروسي فلاديمير بوتين ليس من النوع الذي يُمكن التفاهم معه بعد صدامٍ أو خلافٍ، بل هو شخصٌ سيرسم حدوداً جديدة للتعامل معه. بالتالي، التفاوض من موقع ضعف مع بوتين يشبه الطلب من فيلٍ مأسور في حديقة صغيرة ألا يدوس الأزهار. الفيل سيدوس على الأزهار، وسيستغل انشغال الحارس في ترميم الحديقة، للفرار وتدمير الأحياء المجاورة. وحينها، ستُصبح السيطرة على الفيل أصعب مما قبل. لذلك من المهم، بالنسبة للأوروبيين، إبقاء الفيل في الأسر وتهديده بالسلاح، حتى يقتنع بأن غزو أوكرانيا كان خطيئةً أكبر من الاعتقاد بأن الاتحاد السوفييتي خالدٌ إلى الأبد.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".