"أوتو"... عن الحياة حين يضربها اليباس
توم هانكس في مشهد من "رجل يدعى أوتو"
يطرح فيلم "رجل يدعى أوتو"، بطولة توم هانكس، قضايا بالغة الحساسية مثل الموت والشيخوخة والمرض والعلاقات الإنسانية والعزلة وقلق الوجود والانتحار، من خلال قصّة حياة المسنّ الأرمل أوتو. الفيلم مأخوذ من رواية "رجل يدعى أوف"، للسويدي فردريرك بكمان، من إخراج مارك فوستر.
يبدو أوتو للوهلة الأولى عدوانياًَ، كارهاً الجميع، يتعامل بفوقية واحتقار مع الآخرين، لقناعته بأنه أكثر ذكاءً ومعرفةً، ليتضح مع تكشّف الأحداث أنه مجرّد رجل حزين وغاضب ومخذول، فقدَ حبّ حياته، زوجته سونيا، ولم يعد يرغب في الحياة بعد رحيلها، ما دفعه إلى التفكير جدّياً بالانتحار، بل والشروع فيه ثلاث مرّات، وبطرق مختلفة. غير أن جميع محاولاته تبوء بالفشل. لذلك يتفاقم نفوره، وعدوانيته، ويمعن في عزلته عن المحيط، رافضاً أيَّ تواصل مع الجيران أو الأصدقاء القدامى، الذين يحاول بعضهم عبثاً كسر عزلته والتقرّب منه، غير أنه يقابل محاولاتهم بالجفاء والغلظة. وقد أبدع توم هانكس، مثل عهده دائماً، في تقمّص شخصية أوتو بحذافيرها، ببراعة واحترافية من خلال حركة الجسد وملامح الوجه ونظرة العين ونبرة الصوت، مجسّداً عذابات رجل وحيد يائس ساخط على كل شيء، راغب في الخلاص من حياة باتت عبئاً ثقيلاً على روحه المرهقة. احتشد رأسه بذكريات الشباب: الحبّ والأمل والفرح رفقة الحبيبة، قبل أن يخسرها مرّتَين. الأولى حين تعرّضا لحادث سير في حافلة أثناء عودتهما من رحلة إلى شلّالات نياغارا، فقدت معه جنينها، وشلّت قدماها، وعاشت ما تبقّى من حياتها بكرسيّ متحرّك، قبل أن يداهمها السرطان فترحل. ظلّ أوتو محتفظاً بمقتنياتها الشخصية، رافضاً فكرة رحيلها، عازماً على لحاقها وقد زهد في الدنيا وما فيها، وعاش أيامه في الظلمة والسواد والعزلة.
غير أن ذلك سرعان ما تغيّر عند وصول عائلة جديدة (من أصول مكسيكية) للمجمّع السكني الذي يقيم فيه، امرأة حامل في شهرها التاسع برفقة طفلتيها وزوجها الأخرق، الذي لا يحسن التصرّف. وبعد مواقف عدّة، ومفارقات يكتنفها سوء الفهم والغضب، تنشأ بينه وبين السيدة وعائلتها علاقة إنسانية خاصّة، يلعب فيها أوتو دور الجدّ للصغيرتَين، والمعلم للزوج الطيّب المسالم، الفاشل في أعمال الصيانة المنزلية، والصديق والأب للمرأة ماريسول (لعبت دورها باقتدار الممثلة ماريانا تريفنيو). يجد أوتو نفسه منهمكاً في تفاصيل العائلة الصغيرة، يعلّم المرأة كيفية قيادة السيارة، ويصلح لهما غسّالة الصحون، ويرعى الأطفال أحياناً حين يغيب والداهما، يتمرّد قليلاً على محاولات ماريسول مساعدته في التخفّف من الذكريات الحزينة، والتنازل عن مقتنيات الراحلة، غير أنه سرعان ما يرضخ كما يفعل أيُّ أب لا يقوى على مقاومة إلحاح ابنته المُحبَّة الحريصة على راحة أبيها، ويبوح لها بما يعتمل في قلبه من أحزان. وفي الأثناء يصوّب أوتو علاقاته مع المحيطين، ويتخلّى عن قسوته، ويكفّ عن إزعاجهم وانتقادهم، ويساعد بعضهم في تخطّي أزمات حقيقية، ويعقد صداقةً مع قطّة شريدة كان يرفضها من قبل، لنكتشف أهمية العلاقات الإنسانية في إنعاش حياتنا حين يضربها اليباس.
عندما أحاطت ماريسول وعائلتها أوتو بالحبّ والاكتراث، تجلّت مزايا وفضائل وصفات هذا الرجل الذي صرف النظر عن فكرة الانتحار، وأخذ يحسّ بجدوى وجوده في الحياة التي تصالح معها أخيراً، قبل أن يعاجله الموت جرّاء مرض تضخّم القلب المزمن. يرحل أوتو الذي لم يعد غاضباً بهدوء وسلام وكرامة، وقد ترك ثروته للعائلة التي منحته حبّاً خالصاً عوّضته فيه عن سنوات الوحشة والصمت والحزن.
"رجل يدعى أوتو" فيلم يحرّض على خوض غمار الحياة رغم حقيقة الموت الماثلة، وهو جدير بالمشاهدة أكثر من مرّة بغية تذوّق جماليات البساطة والعمق حين يمتزجان في فرجة سينمائية فذّة.