أن يدكّ ترامب صروح الجامعات الأميركية

28 ابريل 2025
+ الخط -

في الولايات المتحدة صروح أكاديمية عريقة هي الأولى في العالم تاريخيّاً، مثل هارفارد وييل وكولومبيا وستانفورد وماساشوستس وبرينستون وسواها. منارات علوم واختصاص وفكر وبحث ومختبرات متطوّرة، يؤمّها طلاب من كلّ جهات العالم، ومن مختلف الجنسيات والأديان والأعراق، للتخصّص ونيل الشهادات العالية والعودة إلى بلدانهم، أو للبقاء من أجل العمل واكتساب الخبرات في الأرض الأميركية. فماذا يفعل الرئيس الأميركيّ دونالد ترامب اليوم بهذه الصروح؟... يكمل سياسة سلفه بايدن بمضايقة رؤساء هذه الجامعات وأساتذتها وطلّابها الذين يُرحَّل بعضهم تعسّفاً خارج البلاد، بتأثير واضح من اللوبي الصهيوني الأخطبوطي، وبطلب ملحٍّ من هذا اللوبي بالمنع الجازم للتظاهرات المؤيّدة للشعب الفلسطيني، الذي يذبح ويباد في غزّة، ولأيّ نشاط علني في الشارع أو خاصّ عبر وسائل التواصل الاجتماعي، والتضييق إلى أقصى الحدود على الطلاب العرب والمسلمين والأجانب، وحتى الأميركيين، الذين يرفعون أيَّ شعار ضدّ الكيان الصهيونيّ وسفّاحيه، أو الذين يلتحفون الكوفيةَ الفلسطينية أو يحملون العلم الفلسطيني، بألوانه التي باتت معروفةً في العالم. يخوض ترامب اليوم حملةً مكارثية جديدةً يتفوّق فيها عنفاً وشراسة على سلفه المتصهين، الخرف جو بايدن، كأنّه فقد صوابه وجنّ جنونه، أو الأرجح أنّه يسدّد قسطاً من الدين المُعلّق في عنقه لصهاينة، أفراداً وشركاتٍ (مثل بلاك روك وأوريكل، الصهيونيَّتَين الكبيرتَين) موّلوا حملته الانتخابية، ولا مفرّ له من الوفاء بتعهداته الصهيونية دفاعاً عن "إسرائيل"، ومصالح رأس المال اليهودي في أميركا، أو يسقطونه وينسجون له الفضائح مثلما فعلوا مع غيره.

يخوض ترامب اليوم حملةً مكارثية جديدةً يتفوّق فيها عنفاً وشراسة على سلفه المتصهين، الخرف جو بايدن، كأنّه فقد صوابه

على امتداد الأجيال، كانت المؤسّسات الأكاديمية الأميركية من الأعرق بين مثيلاتها في العالم، تستقطب أفضل الطلاب من جميع أنحاء المعمورة، وتشكّل ركيزةً أساسيةً من ركائز القوة الناعمة للولايات المتحدة. ولذلك، فإنّ الأخبار الصادمة عن حملات القمع ضدّ الطلاب والأساتذة ومديري الجامعات الجارية اليوم، والاعتقالات المفاجئة والدراماتيكية لبعض الطلاب بيد عملاء فيدراليين ملثّمين، تتردّد أصداؤها في كلّ أنحاء العالم، ما يلحق ضرراً بالغاً بإحدى الركائز القليلة المتبقّية للهيمنة الجيوسياسية الأميركية. حتى إنّ العالِم السياسي البارز، جون ميرشايمر، صرّح أنّ جماعات الضغط الإسرائيلية تشكّل التهديد الأعظم لحرية التعبير الأميركية، وأيّده في هذا الرأي كلٌّ من البروفسور جيفري ساكس (جامعة كولومبيا) وضابط المخابرات المركزية السابق، فيليب جيرالدي.
مع انتشار الصور الصادمة لغزّة المُدمَّرة ولأطفالها الممزّقين أشلاءً، عبر منصات التواصل المتعددة، كشفت استطلاعات الرأي أن غالبية الشباب الأميركيين يؤيّدون "حماس"، والفلسطينيين في صراعهم المستمرّ مع الكيان الصهيوني، وشكّل ذلك تحوّلاً صادماً عن آراء آبائهم. ونتيجةً لهذه المشاعر الشبابية القوية، اندلعت تظاهرات معادية لإسرائيل في العديد من الجامعات، ما أثار غضب المانحين المليارديريين المؤيّدين لدولة الاحتلال، فشنّ بعضهم على الفور حملةً انتقاميةً قاسيةً، وأعلنت شركاتهم أنها ستمنع أيّ طالب جامعي يدعم القضية الفلسطينية علناً من نيل فرص عمل مستقبلية. أمّا قمع الطلاب المتظاهرين سلمياً في حرم جامعاتهم ومعاملتهم بعنف، فهو أمر يذكّر بديكتاتوريات أميركا اللاتينية، ولا يليق بدولة تزعم أنّها قائدةُ النظم الديمقراطية في العالم، وزعيمة "العالم الحرّ".
آخر "مآثر" ترامب الموتورة ضدّ الجامعات الأميركية العريقة (والمحترمة)، ما أقدم عليه في حقّ جامعة هارفارد، مجمّداً مليارَين ومائتي مليون دولار من قيمة المنح المخصّصة للجامعة، في إثر إعلان الجامعة عدم التزامها بمطالب تغيير سياساتها، مؤكّدةً أن "انسحاب الحكومة الأميركية من الشراكة معها يعرّض صحّة ملايين الأفراد ورفاهيتهم للخطر، كما يعرّض الأمن الاقتصادي وحيوية الأمّة الأميركية للخطر أيضاً". وكانت الجامعة قد تلقت رسالةً من فريق فيدرالي حدّد لها مطالب سياسية "من شأنها الحفاظ على العلاقة المالية بين هارفارد والحكومة الفيدرالية"، بنبرة تهديد واضحة وصريحة، سرعان ما ردّ عليها رئيس الجامعة، ألن غاربر، في بيان جاء فيه: "أبلغنا الإدارة (الحكومية) من خلال مستشارنا القانوني بأننا لن نقبل اتفاقهم المقترح، وبأنّ الجامعة لن تتنازل عن استقلاليتها أو حقوقها الدستورية".
هدّدت إدارة ترامب جامعات عديدة في سائر الولايات الأميركية بخفض التمويل إذا لم تُجرِ تغييرات في سياساتها الدراسية، ويبدو ردّ رئيس جامعة هارفارد فريداً من نوعه لناحية صدّ المطالب الرسمية أو "الأوامر" التي تشمل إلغاء برامج التنوّع والمساواة، وحظر ارتداء الأقنعة في الاحتجاجات داخل الحرم الجامعي (مرجّح أنّ ترامب ضاق ذرعاً بوضع متظاهرين كثر أقنعة تمثّله أو تمثّل حبيبه "بيبي" السفّاح المدلّل لديه)، وإصلاحات التوظيف والقبول القائمة على الجدارة، وتقليص سلطة أعضاء هيئة التدريس (ضرب حرية الأستاذ الجامعي وتقييد منهجه وخطابه الأكاديمي وكيفية تعامله مع طلابه) والإداريين "الملتزمين بالنشاط أكثر من المنح الدراسية"، ومكافحة "معاداة السامية" (هنا بيت القصيد) في الجامعات، بعد سلسلة من الحوادث البارزة في مختلف أنحاء البلاد ردّاً على مجازر الإبادة الصهيونية في غزّة. والنيّة الحقيقية أفصح عنها متحدّث باسم البيت الأبيض، أن "الرئيس ترامب يعمل لإعادة بناء التعليم العالي من خلال وضع حدّ لمعاداة السامية الجامحة، وضمان عدم استخدام أموال دافعي الضرائب الفيدراليين لتمويل دعم جامعة هارفارد للتمييز الخطير أو العنف بدوافع عنصرية". وأن "جامعة هارفارد، أو أي مؤسّسة ترغب في انتهاك القانون، هي غير مؤهّلة بموجب القانون للحصول على تمويل فيدرالي". تهديد وإخضاع صريحان، استبداديان، تصدّى لهما رئيس الجامعة بجرأة وشجاعة قائلاً: "لا ينبغي لأيّ حكومة، بغضّ النظر عن الحزب الحاكم، أن تملي ما يمكن للجامعات الخاصّة تدريسه، ومَنْ يمكنها قبوله وتوظيفه، ومجالات الدراسة والبحث التي يمكنها متابعتها"، كما رفع فرع هيئة تدريس جامعة هارفارد في الرابطة الأميركية لأساتذة الجامعات، إلى جانب المنظمّة الوطنية، دعوى قضائيةً ضدّ ترامب. ووصف نيكولاس بوي، الأستاذ في كلية الحقوق في هارفارد، ما يطلبه ترامب بأنّه "أمر استبدادي"، معتبراً أنّ الرئيس الأميركي "ينتهك حقوق الجامعات وأعضاء هيئة التدريس المنصوص عليها في التعديل الأول من الدستور بمطالبته الجامعات بقمع حرية التعبير وتغيير ما ندرّسه وطريقة دراستنا، إذا أرادت جامعاتنا الاحتفاظ بتلك الأموال (الحكومية)".

يدكّ ترامب تحت ضغط الجهات الصهيونية أساسات الجامعات الأميركية العريقة، التي هي أوّل ما يفخر به المجتمع الأميركي

يُستنتَج ممّا سبق كلّه أمر جوهري، أن الرئيس الأميركي، وتحت ضغط الجهات الصهيونية النافذة والمتحكّمة في سياساته وقراراته، فضلاً عن ديونها المعلّقة في رقبته، يدكّ أساسات الجامعات الأميركية العريقة، التي هي أوّل ما يفخر به المجتمع الأميركي عالمياً، أكثر من أيّ شيء آخر، ويدمّر الوجه الحضاري من سمعة بلاده التي شوّهتها الحروب والأدوار المشبوهة للولايات المتحدة في العالم، بحيث لم يبقَ سوى الجامعات التي تحفظ ماء الوجه وتفرض الاحترام لنواحي العلم والمعرفة والمستوى الأكاديمي العالي. كأنّ ترامب، بما يُعرف عنه من جهل معرفيّ وعداءٍ للثقافة والكتاب، على طريقة غوبلز، الذي كان يتحسّس مسدّسه حين يسمع كلمة "مثقّف"، ينقضّ على آخر مداميك بناء المجتمع الأميركي الأساسية؛ الجامعات، ويُعْمِل معوله فيها هدماً وتدميراً، فلا تبقى للولايات المتحدة منارةٌ واحدةٌ مشعّةً، وتعود من جديد صحراء قاحلةً يتسيّد فيها مجدّداً عقل راعي البقر، فتؤوب إلى أزمنة منقضية من الجهل والنزاعات الداخلية بين أشرار وأخيار، يتقاتلون على قطيع ماشية أو بقعة رعي خضراء في الغرب القائظ البعيد. برعونته ونزقه وعنجهيته وجهله، يدمّر ترامب أساسات مجتمعه الذي تكفيه مغامراته الضريبية الشعواء والعشواء التي زادت في التضخّم ورفعت أسعار السلع الأساسية وأحدثت بلبلة كبرى في أسواق المال والبورصة. حفل جنون لا أحد يعلم متى يهدأ وإلامَ سيُفضي.