أن تكون ملحداً شبّيحاً أو أخلاقياً؟

أن تكون ملحداً شبّيحاً أو أخلاقياً؟

14 سبتمبر 2021

(محمد إحسائي)

+ الخط -

هناك عودة إلى التاريخ الديني والاجتماعي اليوم، وبالذات إلى المرجعيات المذهبية القديمة، والتترس بالطائفة الصغيرة أو المجموعة العقائدية الأكبر، وهي حالةٌ تشتعل في كل الديانات. ولم يكن ذلك التكتل الطائفي المتعصب الذي ساهم في إفشال الربيع العربي مقتصراً على الوطن العربي، ولكنه يزدهر في آسيا الهندية، ويشمل الديانات التقليدية والسماوية، وهو في العالم الشمالي لا يزال قوياً، يتوارى خلف اليمين القومي للشعوب الغربية التي ضاقت بالمهاجرين، ولكن العنصر الديني ثابتٌ فيها، هذا فضلاً عن توالي الجذب الجماهيري لهذه العصبيات. ولم تبرز هذه العودة من خلال فهم مأزق العالم الجديد الذي أقصى خطاب الروح وسلوكيات القيم وفلسفة التشريع في المركز الأخلاقي للفرد، وعبره في نظام الدولة والمجتمع الدولي، ولكنه استقطابٌ صراعي، هو في الحقيقة بيانٌ تاريخي لفشل النموذج الغربي في نشر التمدّن الأخلاقي، وفشلنا في الشرق، عن إحياء منظومة القيم التي تجمعنا، وتهدي العالم إلى فلسفة الرشد قبل السقوط الأخير. سقوط يتداعى علينا من كل فج يُهيمن على الغذاء والدواء، والسياسة وتجريف البيئة الاجتماعية للأسرة البشرية، وكومةٍ من الزبائل في الإعلام و"السوشيال ميديا"، تُصبّ على هذا الإنسان والطفولة الممتحنة منذ ميلادها، وذلك كله باسم التطور والتقدم الذي تحصد أمواله الرأسمالية المتوحشة. وهي فوضى ممتدّة إلى عالم الإلحاد، فسواءً كانت الظاهرة من خلال تدفق القراءة للفلسفة الغربية المعاصرة المؤسّسة على المادية الحادّة، ليبرالية أو ماركسية، أو كانت من خلال صدمة الواقع في ظل الأفكار الحديثة، وما يراه بعض الشباب من نموذج خطاب أو سلوك ديني مستفز، وكل يدعو إلى منبره باسم الإسلام الصحيح.

هنا اليوم تقليد أعور بعض الشيء في الهيجان المختلف نحو الإلحاد، يُبرّر موقفه بمنظور علمي لا يصمد كبلاغ بأنه فتحٌ تاريخي

وهناك من يتوارى بوجدانه بعيداً عن الصخب، اتخذ قرارَه أو ركن إلى شكّه، ولكنه يشعر، في ضميره، بأن اليقين القلبي والدلالة العقلية لم يستقرّا بعد، وظاهرة اللاأدريين تتوسع، وهي تنتشر في تركيا، بحسب إفادة أصدقاء باحثين أتراك، وهي الاعتراف بالرب من دون الدين ومن دون الرسل، وهي قاعدةٌ يهدمها فراغها الواضح، مستنسخة من رحلة الغرب أيضاً. ولسنا في صدد نقاشها اليوم، ولكنها لا تُعطي معنى قيمياً أو طمأنينة نفسية لمن يؤمن بها، فهي محاولةٌ للانفكاك من صخب الجدل، وقيود الدين الأخلاقية.
وهناك حالات تتبع التقليد الذي انتشر منذ القرن الثامن عشر في أوروبا، لو اعتبرنا أن الغرب يؤرّخ لحياته الجديدة في عصر التنوير بـ1843م تقريبا، وعلى الرغم من أن الفلسفة ذاتها التي قادت الغرب إلى مرحلة التنوير، كانت تحمل طيات إيمان روحي بتسليم عقلي، وقد وجدت ذلك في رسالة كانط، بل وفي منظومة روسّو، العقد الاجتماعي، حيث إن جدل الخالق والدين لم يكن حدّياً لديهم ولدى غيرهم، بل لدى كانط كان الإيمان الأخلاقي ضد التوظيف الكنسي جزءا من إجابته على سؤال: ما التنوير؟.. فهنا اليوم تقليد أعور بعض الشيء في الهيجان المختلف نحو الإلحاد، يُبرّر موقفه بمنظور علمي لا يصمد كبلاغ بأنه فتحٌ تاريخي، فهو يعود إلى شعار الماركسية (العلمية) ذاته، "لا إله والحياة مادة". هذا الشعار قد فُكّك نقداً بين مساحةٍ تعارضه في مركزيته الشمولية ومن يُسقطه جزئياً أو كلياً بدلالة معرفية، وهو جدلٌ يشمل الحياة الأكاديمية الغربية، بل إن بعض الفلاسفة الكبار من منظّري الإلحاد قد تطرأ عليه مراجعاتٌ تُسقط بعض أركان إلحاده وبعضهم لا يزال يُقلده.

مهمة الشاب مع دوافع الوجودية وأسئلة الشك اليوم تقوم على فرز ذاته وروحه، وتنظيم قناعته العقلية وتأثيراتها الأخلاقية

الفكرة الوجودية لو أردنا تهذيب المصطلح، أو موافقته الواقع، قديمة، وهي على مراحل، وقد تعبر الشكوك على باحثين كثيرين، وتنطفئ بعد حين بما يستشعرونه من يقين علمي وسكينة روح. وهناك من مارس التشبيح بما فيه التشبيح الإبادي من كبار الوجوديين. ويُقصد بالتشبيح هنا التقعيد الفلسفي لاحتقار العالم الجنوبي، ومناطق النفوذ التي قرّر الغرب تسخيرها له، فهوَت عند ذلك منظومة العدالة التي أسّس لها أولئك الفلاسفة. .. ولاستيراد التشبيح، في مقالنا، تطبيق مهم، وإن كان مصطلحاً بدأ بتوصيف مليشيا النظام السوري وحلفائه، إلا أنه يعني مثالاً مهماً، فبعض من ساند هذا التشبيح وشارك فيه، يُقدَّم ملحدا أو وجوديا، في حين أنه يصطفّ في قالب طائفي، فهي ازدواجية عجيبة، لكن الوجودية في دفاتر الفلسفة الصادقة أو المزعومة تعني الخلاص من أي رابطٍ روحي، والتعامل مع المساواة المادية، مساواة لم تُطبق منذ تأسّست الدول المدنية الحديثة للغرب على عالم الجنوب.
يتكرّر هذا النموذج اليوم في مجموعاتٍ حديثة تعلن إلحادها، وتُباشر تقديم المواد المبرّرة للتحريض على الشعوب المؤمنة بالإسلام تحديداً! وتَغرق في ملاعنة قيم مجتمعاتها، منتشية بشراكتها في تصنيف الغرب الإبادي، الذي كان بعض وجوديّيه وبعض ملاحدة الشرق ضده، حيث فصلوا قناعتهم الفكرية عن موقفهم الأخلاقي التضامني، فالحالة اليوم، في جزءٍ منها، صخب فوضى، ولعل بعض حالاتها ممكن أن نطلق عليه "موضة" في ظل الفوضى الكبيرة التي يعيشها العالم، جزء من عناصر إشعالها هو رغبة الحضور والركوب على الموجة، في ظل تشجيعاتٍ غربيةٍ ممنهجة، في حين بعضها أزمات نفسية ساهم فيها تشبيحٌ مقابل، يُصب من أنصار العصبية الدينية باسم الإسلام، على كل متردّد أو متشكّك يطرح فكرته، ولو كان من صفّ الإسلاميين، بل لا تكاد تغرب شمس ذلك اليوم إلا وقد صُنف من أهل النار وحجزوا له مقعدا فيها.
مهمة الشاب مع دوافع الوجودية وأسئلة الشك اليوم تقوم على فرز ذاته وروحه من هذه الحفلات التصنيفية، وتنظيم قناعته العقلية وتأثيراتها الأخلاقية، من دون أن يؤجّر مقعده لشيطنة مجتمعه، ولينظر بتأمل عميق في مفهوم الإيمان في قلبه وعقله، وتأثيره في حياته، من دون أن يحتاج ليكون نسخة مقلِدة، ولكن ذاتاً أخلاقية ترتفع عن المزاج الكريه والتوظيف الرأسمالي.