أن تكون مسلماً... أن تكون كريماً
(نجيب بلخوجة)
مائدة السماء لأهل السماء، ومائدة الأرض لأهل الأرض. في الأرض يكون الكرم بما تملكه، كي تقترب ولو رمزاً من أهل السماء. أهل الأرض من حولك في احتياج إلى كرمك في يوم في السنة، كي يكون أهل الأرض في ساعة سرور بكرم الأرض من فعل ما ملكت اليد ما بين قلوب الناس. وهكذا يصل كرم اليد ما بين السماء والأرض في يسر ومودة بفعل العطاء. والعطاء هو جوهر أيّ دين، وجوهر أيّ شهامة، وجوهر أيّ تواصل ومودّة، مودّة ما في اليد، للناس كافّة.
كرم الأرض ذخيرة المسلم، بعيداً بالطبع عن سمّ السياسة وعسلها وجنودها، كرم الأرض صافٍ للأرض، وللناس، ومودّة للأرض بعيداً جدّاً عن أيّ غرض بعيد؛ كرم أوصت به السماء للأرض، كي يقترب الناس ولو يوماً في السنة من نعمة العطاء بلا أيّ غرض أو سبب.
ليس في العطاء فوق مودّة الأرض أيّ كهنوت أو أمل، سوى العطاء نفسه، لمواصلة الشعور بفعل السخاء، السخاء الذي هو موصول بالله صاحب أيّ فضل وصاحب أيّ عطاء. أنت في هذا اليوم مُؤجَّر من قبل الله في السماء كي تعطي فقط، لا بحثاً عن مكانة أو فضل، بل كي تسدّ تلك الفجوة ما بين من ملك على الأرض أكثر من غيره، فتقوم بفعل الذبح تطهيراً لنفسك ولذنبك ومالك، تفعل ذلك بمحبّة المساكين للمساكين، لأنك مسكين أكثر من المساكين، وتحتاج إلى ذلك الخيط الرقيق الذي يربطك بالسماء، من دون رفعة ومن دون كهنوت. خيط رقيق يربطك بالناس وبإبراهيم، وبإسماعيل، وبكلّ مساكين الأرض من الضعفاء والذاكرين، حتى تكون من أهل الأرض حقّاً، وضعيفاً حقّاً، ومأموراً حقّاً، من الكريم وصاحب كلّ كرم.
المسلم هو ذلك الكريم بماله، وكريم بدمه، حتى وإن كان ضعيفاً، أو قوياً، وكريم بأولاده لو جاروا عليه، وكريم بكلّ ما يمتلكه لو أحسّ أن ذلك الكرم يقرّبه من أهله فوق الأرض، أو يقرّبه من الحقّ، أو يقرّبه من العدل، أو يقرّبه من المساكين، بعيداً عن أيّ دعاية أو سياسة، أو غوغاء، أو انتظار فضل أو مودة أو وظيفة أو ثناء، سوى من صاحب الكرم، وذلك ما يحدّثه به قلبه فقط، بعيداً عن الوصايا، أيّ وصايا.
كرم الأرض من القلب ينبع شهامة عفوية، بلا ظلّ دعاية أو إعلان، أو وجاهة، هي وصل بمساكين القلوب من دون ادّعاء عطف أو حجز مكانة متباهيةً في السماء، لأن السماء في غنىً عن ادّعاء أيّ عطاء، العطاء للعطاء نفسه، بلا واسطة أو انتظار إشارة من أحد، أو انتظار أمر من أيّ ملك أو سلطة.
العطاء يحبو بأمر العطاء نفسه من يدك لمن يستحقّه، ولو رغم أنفك أو مالك، تلك شريعة الأضحية في جوهرها، الأضحية بأيّ شيء، ولو حتى بوقتك في سبيل المعرفة أو في سبيل الصبر أو الانتظار، انتظار أيّ أمل، حتى إن لم يأت ذلك الأمل أبداً.
العطاء فرح آخر في عيون المذبوحين طوعاً، أو غيلة وهم في ديارهم، فرح من يدافع عن عرضه وترابه ودينه وناسه ومساكينه، عطاء ليس للهاربين والخونة وأصحاب قناطير الذهب، عطاء موعود به الشهداء والمساكين والصابرون وأصحاب الفضل في وصل السماء بالأرض، ولو بدمهم وصبرهم فقط. عطاء ليس له من فلسفة، أو تبرير، أو فقه جامد، أو لين، أو ممسوخ، عطاء يبدأ من ذلك اليقين الغامض ولا ينتهي أبداً بكبش أو عجل أو حتى بقطيع من عجول.
عطاء ممتد بلا وصاية أو وجاهة أو ادّعاء جود أو مكان. عطاء ولو بحفنة من تمر، ولكن بمحبّة من يمدّ بيده الوصل فوق الأرض، كي تكتب السماء دلالة ذلك في التاريخ أو لم تكتب، يكفي أن القلب كتب لنفسه بنفسه، وأعطى ما جاد به عن محبّة.
العطاء هو غريزة المحبّين في صمت ما بين جبلين أو في عرفات أو في ملجأ فيه أيتام أو في مدرسة أو في شارع ضيق مغلق على مساكينه في انتظار العيد وبركاته، أو في حقل وأنت تعد الشاي على نار الحطب، أو أنت في مصنع، وقد أخذت في حقيبتك الصغيرة هدية العيد لعامل صغير في الوردية، ثم ودعته وأخذت سنارتك كي تصطاد سمكتين من البحر، وتحكي ذلك لأولادك في الصباح التالي ضاحكاً، خاصة أن البحر قد عرف أن البلد مليئة باللحوم فبخل بالسمك على السنارة طيلة الليل.