أنقرة والرياض .. تقاطعات الصراع أم المصالح؟

أنقرة والرياض .. تقاطعات الصراع أم المصالح؟

27 ابريل 2021
+ الخط -

تغير الكثير منذ كنا نكتب عن فرصة التطوير الاستراتيجي للعلاقات النوعية بين الخليج العربي وتركيا الجديدة في حينها، فمنذ عام 2010 شهدت هذه العلاقات تقارباً وتوتراً متعددين، وبالذات بين تركيا والسعودية، وهي تغيراتٌ لها علاقة بالوضع الداخلي في كلا البلدين. مع ذلك، تعتمد قواعد التغيير في السياسات الرسمية للدول المصالح، حتى بعد مرحلة التوتر الصعبة. وهذا برز أخيراً في توجّه الجيش المصري إلى دفع الرئيس عبد الفتاح السيسي إلى الاتفاق مع تركيا. ولا يناقش الكاتب هنا ملفات الاتفاق الموازية الأخرى المتعلقة بالمعارضة، ولا المعيار الأخلاقي أو الإسلامي الإنساني، سوى أنّه يذكّر بأنّ عبور مصالح تركيا مع مصر من الممكن أن يوظف لنقلة حقوقية، إن نجحت المعارضة المصرية في تنظيم ملفها الحقوقي، ونجحت أنقرة في تمريره، ضمن مفاوضات تثبيت العلاقات الاستراتيجية، ليُساهم الجسر التركي في تسوية إنسانية، يؤمن بها الحكم العسكري لمصر، وأنّه في غنى عن بقاء هذا التوتر. والمكسب الكبير في ظل العجز الحالي بعد ثماني سنوات من الانقلاب سيكون في إخراج آلاف المعتقلين والأُسر المخنوقة من الجائحة الأمنية في مصر.

الخطوط الكبرى في العلاقات لا تحتمل المراهنة على مشاغباتٍ طويلة، أضرّت بمصر وخسرت عبرها مكانة كبيرة وما زالت

الشاهد هنا هو استشعار الدولة العميقة في مصر بأهمية التقدّم مع أنقرة التي حاولت، عبر جسورها الدبلوماسية الهادئة، أن تكسر حدّة التطرف في موقف مصر منذ الانقلاب، على الرغم من الخطاب الرسمي المعلن من تركيا، لكنّ هذه الجسور ظلت متواصلة، لكنّ البعد الخليجي، خصوصاً بعد أزمة حصار قطر، أوقف تلك المبادرات.
المهم هنا أنّ مصر وتركيا تتخذان اليوم خطواتٍ مركزية في العلاقات الثنائية، وبالذات في حوض البحر الأبيض المتوسط. هنا يبرز سؤال الخليج العربي الكبير وموقف الرياض منه: لماذا أقدمت مصر على ذلك؟ لا حاجة هنا لاستدعاء من سعى ممن قَبِلَ، فالمؤشر هو في خلاصة التوافق المصري التركي، على مصالح دولةٍ، لا مصالح تيار سياسي أو فكري، فهذه الخطوط الكبرى في العلاقات لا تحتمل المراهنة على مشاغباتٍ طويلة، أضرّت بمصر وخسرت عبرها مكانة كبيرة وما زالت. ولا نعني هنا بالطبع أنّ الرئيس السيسي صحّح سياساته التي تنتظر انفراجة داخلية، استفاد منها الرئيس حسني مبارك في مبادرة الإمامين، متولي الشعراوي ومحمد الغزالي، عام 1987، فأوقف التوتر الأمني مع الجماعة الإسلامية، وأطلق السجناء في حينها.
لكنّ الأمر في الخليج العربي أشد حساسيةً وحاجةً للتفكير الموضوعي، فما الذي ستأخذه الرياض من هذا التحشيد مع اليونان بالتداخل مع تل أبيب، وما هو الممكن لأثينا أن تقدّمه كمصالح جيوسياسية، بعد أزمة الرياض في حرب اليمن وفقدان الثقة الذي أحدث فراغاً مع دول الخليج العربي، وهو ما عزّز قوة النفوذ الإيراني واستعداده الجديد لاتفاق نوعي مع واشنطن والاتحاد الأوروبي.

قوة أنقرة في الإقليم الأوروبي المحاذي تعزّزت، بعد الحرب أخيراً على هوية إقليم ناغورنو كاراباخ الأذري. وحضرت تركيا قطب تأثير في توترات أوكرانيا وروسيا

خلط الرياض اليوم بين جسورها الجديدة مع الأتراك والحملات والمراهنات غير الموضوعية مع خصوم أنقرة، يُضعف فرصها لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لدولتها القُطرية وللأمن القومي للخليج العربي، وحتى المراهنة على صراع تركي - يوناني بسبب الخلاف العقائدي والسياسي القديم، وبسبب أزمة قبرص، فهو دوماً يُضبط تحت مصالح السوق الأوروبية المشتركة، والتي لن تقبل أيّ مواجهة عسكرية مع اليونان، وهذا لا يعني رفض التعاون الثنائي مع اليونان ومصالح السعودية معها، وإنّما تجنب الانخراط في محور إقليمي في مواجهة دول إسلامية، لا يوجد أي مبرر له.
قوة أنقرة في الإقليم الأوروبي المحاذي تعزّزت، بعد الحرب أخيراً على هوية إقليم ناغورنو كاراباخ الأذري. وحضرت تركيا قطب تأثير في توترات أوكرانيا وروسيا، والضغوط الاقتصادية على الليرة لم تغير معادلة الصعود، وكذلك الصراع الداخلي مع المعارضة، فهنا حسابات بعض الخليج ومراهنته على الاستنزاف لاستغلال الضغط على تركيا غير مفيدة مطلقاً.
ولا يدعو هذا المقال إلى اعتبار تركيا مرشداً إسلامياً ملهماً، كما هو خطاب بعض الإسلاميين الأخير، ولا لتجاهل مصالحها القومية التي قد تتعارض أحياناً مع مصالح المشرق العربي ككل، وليس الخليج العربي فقط، ولكن المقال يدعو إلى التفكير العقلاني السياسي في تنظيم مبادرات نوعية، كان حزب العدالة والتنمية قديماً متحمسا لها مع دول الخليج العربي، وكذا تحييد بعض الصراعات وتحييد نفوذ إيران فيها، ومن ذلك اليمن، ومستقبل الملف الإنساني السوري، والفترة الانتقالية التي قد يخضع لها الروس في دمشق، وملف العراق الجيوسياسي، فضلاً عن علاقات حاضر العالم الإسلامي الممزّقة والمتوترة، والتي خسرت فيها الرياض كثيراً، إعلامياً واجتماعياً وسياسياً، فهي سلة مهمة للرياض كما هي لتركيا.

تركيا اليوم لمن يحبها أو يكرهها من أهم الأطراف التي تلعب دوراً مهماً في مستقبل الشرق الجديد

وفي إقليم كردستان العراق هناك مصالح للعراق العربي والسعودية وتركيا في تطوير علاقة معه بوصفه قوة توازن يستقر بها العراق، وتقيم مع قيادته في أربيل شبكة مصالح متوازنة، إذ يمثل استقلال الإقليم عن نفوذ إيران، بعدما استطاع أن يستأنف قدراته السياسية والأمنية، بعد اجتياح الحرس الثوري الإيراني، مساحةً مهمةً لأنقرة تتقاطع مع البعد الإنساني للشعب العراقي واستنزافه، ويصنع لتركيا مظلة حوار لصالح ملفها الداخلي. وشراكة الرياض هنا تحقق مصالح مهمة لها في الإقليم.
فكرة مواجهة إيران بحرب سقطت، ولن تتبناها واشنطن مطلقاً، ولم تقع أصلاً على الرغم من بازار ترامب وضجيجه، كما أنّ قدرة الكيان الصهيوني، خارج تأمين حدوده ووجوده في معادلة الغرب المركزية، لن تتقدّم إلى مساحة تأثير جيوسياسي أمام إيران، على الرغم من كلّ هذا التولّه بها. إنّما البحث هنا في مساحة تحييد للنفوذ الإيراني، وعلاقات إقليمية واقتصادية وسياسية بين الخليج العربي وتركيا، يصنع أرضية توازن جديدة بعد خريف الخليج العربي الذي عاشه الإقليم داخل بيته، فهدم الثقة بين أهل الجزيرة أنفسهم، وهو ما يحتاج تصحيحه إلى هدوء وكسب حلفاء، وتركيا اليوم لمن يحبها أو يكرهها من أهم الأطراف التي تلعب دوراً مهماً في مستقبل الشرق الجديد.