أنقرة عندما تستعد لانتقام مرتقب

أنقرة عندما تستعد لانتقام مرتقب

25 فبراير 2021
+ الخط -

تعد أنقرة بالتأكيد لعملية انتقامية بعد استهداف مواطنين أتراك في منطقة غارا العراقية، حيث عثر الجيش على جثث 13 شخصا في أحد كهوف المنطقة. وقد أعلنت وزارة الدفاع التركية بوضوح عن هذا الاستعداد، عندما عبرت عن نياتها بتوسيع نطاق عملياتها العسكرية ضد مجموعات حزب العمال الكردستاني في سورية والعراق، والبحث عن قتلة الرهائن الأتراك الـ 13 بهذه الوحشية، لأنه لا يمكن إغلاق ملف القضية، حتى ولو كان الثمن باهظا على حكومة العدالة والتنمية التي تحتاج إلى إنجاز سياسي وعسكري كبير في هذه الآونة. ولكن تحركا عسكريا من هذا النوع يتطلب أيضا الاستعداد للمرحلة المقبلة في إطار توازنات ميدانية وسياسية إقليمية جديدة.

إلى هذا الأمر، تعاقدت تركيا مع شركة الاستشارات القانونية والسياسية، أرنولد أند بورتر، الأميركية، للدفاع عن حقوقها في العودة إلى برنامج المقاتلة الأميركية، إف – 35، الذي استبعدتها واشنطن منه، بسبب شرائها المنظومة الدفاعية الروسية أس 400. ووجه الرئيس التركي، أردوغان، مزيدا من الرسائل الانفتاحية نحو الإدارة الأميركية الجديدة، فمبرّرات التقارب التركي الأميركي تفوق بكثير أسباب التباعد والقطيعة، على الرغم من ارتكاب واشنطن خطأ متعمدا في التشكيك بالرواية التركية بشأن مقتل المواطنين الأتراك في شمال العراق.

مبرّرات التقارب التركي الأميركي تفوق بكثير أسباب التباعد والقطيعة، على الرغم من ارتكاب واشنطن خطأ متعمدا في التشكيك بالرواية التركية بشأن مقتل المواطنين الأتراك في شمال العراق

قبل ذلك بساعات، كانت هناك معلومات ميدانية عن استعدادات أميركية وروسية لإنشاء قواعد عسكرية جديدة في شرق سورية في أكثر المواقع الجغرافية أهمية على مقربة من الحدود بين الدول الثلاث المتجاورة، سورية والعراق وتركيا. بعد ذلك بساعات، كان هناك الاتصال الهاتفي بين الرئيسين التركي، أردوغان، والإيراني، حسن روحاني، وخصص قسم كبير منه لتطورات المشهد في سنجار، وانتشار قوات الحشد الشعبي في المناطق المجاورة لأربيل. وقد أرادت طهران توجيه أكثر من رسالة إلى أكثر من طرف محلي وإقليمي: نسف التفاهمات والاتفاقيات بين بغداد وأربيل بشأن سنجار وقطع الطريق على نيات أنقرة القيام بعملية عسكرية في المنطقة، وتحييد أية محاولة فرض واقع تركي أو أميركي جديد في شمال العراق. وستسهل الإجابة عن سؤال عمن استهدف أربيل والقوات الأميركية أخيرا حتما التعامل مع تنقلات عسكرية وسياسية كثيرة فوق رقعة شمال العراق وشمال شرق سورية، والتي لا يريد أي من الأطراف الفاعلة هناك أن تتم على حساب نفوذه ومصالحه.

جمّدت واشنطن وقيادات التحالف الدولي كل المناورات والخطط العسكرية المشتركة مع حكومة كردستان العراق في أربيل وقوات سوريا الديمقراطية (قسد) في شمال شرق سورية منذ أشهر، والتبرير وباء كورونا، وتجنب ارتدادات عملية اغتيال قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، قاسم سليماني مطلع يناير/ كانون الثاني 2020، ولا أحد في القامشلي وأربيل مقتنع بهذه الذرائع. ما يقلق الجانبين هو صفقة تسويات أكبر على حسابهما بين الدول الخمس التي تتابع تطورات الملفين عن قرب، وتخوف أكراد حزب العمال وأربيل وشرق الفرات مشترك، أن تسحب واشنطن جنودها من المنطقتين، وتتركهما في مواجهة بغداد وأنقرة وطهران، لأن ذريعة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) لم تعد واقعية ومؤثرة.

لا يمكن فصل انفجارات وسط بغداد قبل أسابيع عن استهداف أربيل والقواعد العسكرية الأميركية هناك

هل تُقدم الإدارة الأميركية الجديدة على سيناريو من هذا النوع، يفتح الأبواب على نسف التوازنات الأمنية والميدانية في شمالي العراق وسورية لصالح تحالف أستانة (روسيا وتركيا وإيران) بمثل هذه البساطة؟ ما الذي سيوفره لها قبول صفقة من هذا النوع؟ تأمين خروجها السالم من البلدين؟ هل ترغب إدارة الرئيس الأميركي، بايدن، في ذلك حقا؟ وهل تقبل الدول الحليفة والصديقة الداعمة للولايات المتحدة، مثل إسرائيل والسعودية ومصر، بخطوة انتحارية أميركية من هذا النوع، تعزّز النفوذين، التركي والإيراني، في المنطقة؟ ما قد يدفع بايدن إلى الإقدام على خطوة بهذا الاتجاه احتمال وجود تفاهمات أميركية روسية، قبلت بها أنقرة وطهران بعيدا عن الأضواء حول تسوية في الجولان، تمهد لتسوية أكبر في الملف السوري، مقابل تحجيم الدور والنفوذ الكرديين في سورية والعراق. مساومات بهذا الاتجاه تنهي أيضا ورقة حزب العمال الكردستاني التي طالما أقلقت تركيا، وقد تدفعها إلى قبول أية تسويات على خط واشنطن موسكو في إطار خطة تقاسم نفوذ إقليمية أوسع. تمسك قيادات أربيل بوجود الخطر "داعش"، واحتمال تحرك آلاف من عناصر التنظيم الذين فرّوا إلى البادية، أو اختفوا في المدن الكبيرة. ويلتقي مع ما تقوله قيادات "قسد" وضرورة مواصلة واشنطن خط الإمدادات العسكرية وشحن الأسلحة والعتاد التي قد تستخدم لاحقا وعند الضرورة لتنفيذ مشروع كردي انفصالي في شرق سورية. وهذا يعني اعتراض أربيل و"قسد" على المشروع.

وقد يعود الرئيس بايدن إلى مواصلة أسلوب الرئيس أوباما الذي اعتمده في سورية والعراق، وهو نشر الفوضى في البلدين أكثر مما هي قائمة لعرقلة التفاهمات الروسية الإيرانية التركية، لكنه قد يفاجئنا أيضا بقبول خطط توازنات إقليمية جديدة، بناء على التفاهمات الروسية الإسرائيلية في الجولان وسورية. ووجود قاعدة عسكرية أميركية على بعد مئات الأمتار من الحدود التركية السورية، وحديث عن قاعدة عسكرية روسية مماثلة في المنطقة، لا يمكن لذلك أن يتم من دون تفاهمات أميركية روسية على شيء ما في المكان. تقول القيادات الأميركية إن مهمتها لم تعد حماية آبار النفط التي تبيض ذهبا أسود لحزب الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وإنه ليست هناك لدعم أي مشروع انفصالي في سورية. وقد يكون سبب إعلان واشنطن تخليها عن النفط في شرق سورية ورقة المياه الأهم إقليميا لإسرائيل. ولا يمكن أن تتجاهل عملية "مخلب النسر 3" التركية هذا المخطط المراد منه فرض إسرائيل شريكا رابعا في دجلة والفرات، بعدما فشلت تل أبيب قبل عقدين في إقناع أنقرة بمنحها حقوق الاستثمار طويل المدى في مشروع "غاب" الإنمائي التركي.

ستتحرك أنقرة باتجاهين حتما، نحو سنجار لضرب المشروع الإيراني على حدودها العراقية السورية، ونحو شرق سورية، لمنع أمر واقع جديد أميركي وروسي من دون وجودها أمام الطاولة

هل تقول واشنطن شيئا آخر؟ بعض الأجوبة هي عند الرئيس التركي الذي يدعو الإدارة الأميركية الجديدة إلى مراجعة مواقفها، وتبني قاعدة اربح اربح في العلاقات التركية الأميركية، لكنه يعرف أنه كان لهذه الرسائل مفعولها ربما مع إدارة ترامب الراحلة، لكن الأمور مع بايدن ستكون مختلفة. واستدعاء السفير الأميركي في أنقرة إلى الخارجية التركية للاحتجاج على تصريحات واشنطن بشأن تفسيرها ما جرى في "غارا " يعني أن المواقف بين البلدين متباعدة تماما. وقد بدأت أصوات تركية مؤثرة تطالب بمهاجمة الشاحنات العسكرية الأميركية التي تنقل السلاح من شمال العراق إلى شرق سورية. وينشر مركز بروكينغز الاميركي، في المقابل، تقريرا مفصلا عن العلاقات الأميركية التركية، يوصي فيه بمواصلة التصعيد ضد أنقرة حتى تتغير الأوضاع السياسية، ويتم انتخاب حكومة جديدة.

السيناريو الآخر المعاكس الذي تريد أنقرة مواجهته، إذا هو تحريك إيران قوات الحشد الشعبي في سنجار، بهدف مواجهة القوات التركية عند وقوع أية عملية عسكرية في المنطقة. ولكن الهدف غير المعلن هو السيطرة على هذه البقعة الجغرافية باسم إيران ونيابة عنها. ولا يمكن فصل انفجارات وسط بغداد قبل أسابيع عن استهداف أربيل والقواعد العسكرية الأميركية هناك. وبشأن إيران، ثمة رسائل جديدة منها، بعد الإعلان عن تفاهمات تركية عراقية حول سنجار، ومطالبة أنقرة واشنطن بالحوار المباشر معها في ممر شرق الفرات وشمال العراق. وتحاول إيران التلاعب بالتوازنات العراقية والسياسية والأمنية هناك. ويقود تضارب المصالح التركية الإيرانية في سورية والعراق إلى استنتاج أن أنقرة لن تسمح لإيران المساومة على سنجار أو أوراقها في العراق وسورية مع واشنطن، أو محاولة لعب ورقة مياه دجلة والفرات، وتسهيل مشروع الهيمنة المائية الإسرائيلية على مجرى النهرين في البلدين، بحجة حقوق أكراد سورية في المياه عند قيام دولتهم.

ما يقلق أنقرة أكثر هو سيناريو بروز الخدمات المتبادلة بين واشنطن وموسكو من جهة وطهران وواشنطن من جهة أخرى

ستتحرك أنقرة باتجاهين حتما، نحو سنجار لضرب المشروع الإيراني على حدودها العراقية السورية، ونحو شرق سورية، لمنع أمر واقع جديد أميركي وروسي من دون وجودها أمام الطاولة. وهناك من يردد في موسكو إن واشنطن تريد حسم ما تبقى من نفوذ ووجود لمجموعات حزب العمال، وإلزامها باخلاء الساحة أمام البديل الجديد في سورية. والهدف هو سحب ورقة "إرهاب" حزب العمال من يد تركيا، وتجهيز "قسد" للعب دور سياسي أكبر في التوازنات السورية، في إطار تفاهمات إقليمية مرتقبة حول ملف الأزمة السورية.

قد يشعل بايدن الضوء الأخضر أمام الرئيس الروسي، بوتين، في سورية، ويعطيه ما يريد أمام طاولة حوار ثنائي، حتى ولو كانت على حساب تركيا. في العراق، قد يُفعل الأمر نفسه مع طهران. ما يقلق أنقرة أكثر هو سيناريو بروز الخدمات المتبادلة بين واشنطن وموسكو من جهة وطهران وواشنطن من جهة أخرى، وربما وساطة روسية بين إيران وإسرائيل تشمل الجولان وشرق سورية وشمال العراق على خط سنجار – الحسكة، وقد تتم كل هذه التفاهمات على حساب تركيا وأمنها واستقرار حدودها.

4A6988D0-57AB-4CAB-9A76-07167D860E54
سمير صالحة

كاتب وباحث تركي، أستاذ جامعي في لقانون الدولي العام والعلاقات الدولية، دكتوراة في العلوم السياسية من جامعة باريس، له عدة مؤلفات.