أنا مرهقة لا أكثر
(صفوان داحول)
كثيراً ما أُسأل: ما أخبار الشِّعر؟ أما من ديوان جديد هذه الأيّام؟... وأخمّن أن السائل ينتظر مني جواباً محدّداً: "أكيد سوف أصدر ديواناً قريباً". لكن الحقيقة أنني حالياً لا أملك أيّ جواب عن سؤال كهذا، ويصيبني الحرج، إذ أشعر أن من المعيب، بعد هذه السنوات، أن أقول إنني نسيت الشعر، وإنني غير راغبة حالياً في كتابة شيء، وإنني شديدة الإرهاق إلى حدّ فقدان الطاقة على التفكير في الشعر.
ليس الموضوع هو حبسة الكتابة أبداً، فأنا أدرك أنني لو قرّرت كتابة نصّ شعري اليوم لجلست وكتبت، لكن الفكرة أن لا رغبة لي في كتابة شيء خارج مقالاتي التي هي عمل وظيفي لي في أحيان كثيرة. أشعر باللاجدوى من كلّ شيء: الكتابة والإبداع والإنجاز والمشاريع، وكلّ ما يفترض أن يكون ذا قيمة. ما جدوى الإبداع في زمن القتل والموت اليومي؟ وما جدوى الفنّ في زمن بات فيه العنف، بكلّ أشكاله، هو السيّد؟
تابعوا المسلسلات المُنتَجة من المنصّات العالمية، لن تروا سوى مسلسلات عن الجرائم وعن العنف، وكأنّ الحياة العادية اليومية وتفاصيلها البسيطة لم يعد لها مكان في هذا العالم. هل هناك من يروّج العنف في هذه المنصّات عبر إقصاء إنتاجات أخرى عن الحبّ والعلاقات الطبيعية والمشكلات اليومية العادية وقضايا الناس وأحلامهم وآمالهم، كي تعيش البشرية في حالة احتقان متواصل، فردي وجمعي، يبقيها في حالةٍ من صراع تزداد ضحاياه يومياً، ويزداد معه رصيد أثرياء العالم، تجّار الموت بأنواعه كلّها.
قال لي صديق قبل أيّام: ما الجدوى من هذا التعب كلّه، والإرهاق الذي أعيش فيه منذ سنوات طويلة في محاولة لتحسين دخلي، ما دمتُ قد أموتُ في أيّ لحظة وأدخل في العدم، تاركاً خلفي كلّ شيء؟... نحن ننسى الموت بانشغالنا بالحياة. أفكّر في كلام صديقي، وأشعر بعدميةٍ في تفكيره. أردت أن أقول له أن يتوقّف عن التشاؤم، لكنّني لم أتجرّأ على قول ذلك، فأنا مثله، أرى أن كلّ ما نفعله لا معنى له، ما دمنا محكومين بحتمية الموت، النهاية التي جعلتني دائماً أطرح سؤال الإنجاز، ما الهدف منه إذا كنّا لن نعيش لنستمتع بنتائجه؟
أتذكّر أن هذا حديث أخذ مني وقتاً مع الأصدقاء ومع نفسي: لماذا على أحدنا أن يكون شديد الحرص على مشروعه الأدبي أو الفني؟ هل لأن الفنّ أو الأدب يجعل أسماءنا خالدةً، والبشر عموماً تفعل ما تفعله في حياتها بحثاً عن الخلود. الزواج والأبناء والملكية والعقيدة والإبداع والإنجاز... كلّها تفاصيل تجعل ذكرى الشخص باقيةً، وكأنّ هذه الذكرى تتحدّى العدم والموت، وتنحاز إلى الخلود. لكنّني أفكّر في جدوى بقاء اسمي وخلوده، ما دمتُ أنا غير موجودة، وإدراكي لمعنى ذلك كلّه قد توقّف أو انتهى تماماً. ما الذي سيعنيه الآن لمحمود درويش مثلاً أن قصائده قد هزمت الموت ("هزمتك يا موت الفنون جميعها"). لكن هل هذا صحيح؟ هل الشعر هزم الموت؟... مات درويش وبقي مُنتَجه، هل هذا يخفّف (على الأقلّ) من وطأة الموت وقسوته؟
ذات يوم، قال لي الشاعر اللبناني بول شاوول في حوار قديم أجريته معه: "أنا أعيش في غرفة كبيرة مع أصدقائي الكتّاب". قلت له: "أنت تعيش مع كتبهم، هم أموات". قال: "هم أحياء، أنا أحييهم كلّما قرأتهم". لم أقتنع. لا تعيد القراءة الكاتب الراحل إلى الحياة، هي تعيد إحياء كتابته لا إحياءه هو. ثمّة فرق كبير نحاول تجاهله كي نصدّق أن الإبداع قادر على تحدّي الموت.
يسألني الأصدقاء: لماذا أنت متوقّفة عن كتابة الشعر؟ وأعجز عن الإجابة، هل أنا أدخل في مرحلة اللاجدوى فعلاً، أم في مرحلة مؤقّتة مرتبطة بما يحدث في بلدي، وستنتهي لاحقاً، حين أدخل مرحلةَ التعوّد كما دخلتها في 2013، بعد أكثر من عام ونصف العام من الجريمة الكُبرى، التي أوصلتنا إلى ما نحن فيه اليوم؟ وهل هذا السؤال الذي يشغلني حول جدوى الكتابة كان سيشغلني لو أنني أنتمي إلى بلد آخر آمن وسالم ومعافى؟
نحن أيضاً محكومون بانتماءاتنا التي تؤثّر في مصائرنا مهما حاولنا تغييرها أو إنكارها.