أنا السوري من أكون وماذا أريد؟
(بهرام حاجو)
في زحمة الاستحقاقات والتطوّرات والتحدّيات، التي تستجدّ كلّ يوم، لا يمكن التخمين إن كان السوري يجد وقتاً يقف فيه أمام المرآة ليسأل نفسه السؤال الوجودي: من أنا، من أكون، ماذا أريد؟ سؤال يطرحه الناس دائماً إذا أرادوا مراجعة مسار حيواتهم كلّما حدثت تغيرات كبيرة حولهم، تؤثّر بالضرورة فيهم تأثيراً كبيراً، وأحياناً جذرياً، ويتغيّرون هم معها من دون أن يدروا. أمّا بالنسبة للسوري، فإن هذه الوقفة وهذه المراجعة، ربّما تكون ضروريةً له أكثر من الآخرين، نظراً إلى أن بلاده يعاد تشكيلها، ومن المفترض أن يكون له دور في ذلك التشكيل. وهو دورٌ لا يمكن ضمانه من دون معرفته ذاته وفهمه هُويَّته المتشكّلة عبر السنوات، وبفعل الحوادث التي عصفت بالبلاد، والتي قد يستمرّ عصفها.
دخل السوريون في اشتباك طائفي في وسائل التواصل الاجتماعي بعد سقوط النظام، وهروب بشّار الأسد من البلاد. اشتباكٌ أتاح أجواء حرية الكلام النسبية، أن ينتشر ويجعل كلّ من يريد أن يدلي بدلوه في المسائل الطائفية يسارع إلى ذلك بلا أيّ وازع، فالخوض في هذه المسائل كان غير متاح خلال فترة الحكم السابق. أمّا الآن فقد تغيّر الحال، وقد بدا الأمر وكأن بعضهم بدأ يكتشف نوازعه ومواقفه وآراءه فيها من خلال التعليق على ما ينشر، أو من خلال نشر رأيه فيها وانتظار ردّات فعل الآخرين تجاهها أو تجاهه هو نفسه، متجاهلاً، في بعض الأحيان، خطورة التطرّف في هذا الطرح، ومجازفاً، في أحيانٍ أخرى، بعلاقاتٍ تاريخية مع أصدقاء أو جيران من طوائف مغايرة، من أجل فرض وجهة نظره، بغضّ النظر عن مدى صحّتها. غير أن هذا الاشتباك زاد عن حدِّه بعد مجازر الساحل التي حدثت بداية مارس/ آذار الماضي، والحوادث التي جرت في جرمانا وأشرفية صحنايا في دمشق بعدها. ووصل الأمر إلى حدّ السعار الطائفي، وانزلق إليه أناسٌ لم يكن من المتوقّع انزلاقهم، ومنهم من كان قبل ذلك على الحياد، أو حتى من الرافضين طرحاً من هذا النوع. وعلى الرغم من خطورة هذا الطرح، رأى بعضهم فيه فرصةً لتفريغ مكبوتات، وفرصةً لاكتشاف كلّ فرد من أفراد الشعب السوري مدى حصانته إزاء نوازعٍ ما قبل مدينية كهذه. ومن هنا، وجد بعضهم نفسه وسط تجاذب هُويَّاتي حريّ أن يدفعه إلى سؤال نفسه: هل أنتمي إلى طائفتي، أم إلى ديني، أم أن انتمائي هو لوطني، بما يمثّله من جغرافيا وشعب وتاريخ، وغيرها من مكوّناتٍ دولاتيةٍ كُبرى عابرة للطوائف والأديان؟
وحصل هذا الأمر في وقت كان مأمولاً أن يقود سقوط النظام فيه إلى حالة من الانفتاح والتسامح بين السوريين، ويدفعهم إلى التعرّف إلى بعضهم عن قرب، بلا أيّ شكل من الخوف والتوجّس الذي كان يميّز علاقاتهم في السابق، نتيجة سياسة التخويف والكراهية والتفريق، التي اتبعها نظام الأسدَين (الأب والابن) خمسة عقود، من أجل منع التقارب بين فئات المجتمع المختلفة وطوائفه، لاعتقاده أن ذلك سيدفعهم إلى الاتفاق عليه. ويمكن إرجاع أسباب الاشتباك الطائفي وتعمّقه في هذه الفترة إلى عدم تحسُّن أحوال الناس المعيشية، بل ازديادها سوءاً بعد سقوط النظام، نتيجة انخفاض القدرة الشرائية لكثيرين، وانعدام الدخل لدى شريحةٍ وصل عدد أفرادها إلى مئات الآلاف، بعد فصل الموظفين والعمّال وتسريحهم من أعمالهم. وهي أمور ترافقت مع تحرير أسعار المحروقات، الذي انعكس على الفور زيادةً في أسعار الخبز وتعرفة النقل، ما استنزف الرواتب، السخيفة أصلاً، التي لا تتجاوز في أحسن الحالات 40 دولارا شهرياً. أمور جعلت كثيرين يبحثون عمّن يحملونه المسؤولية فلا يجدون إلا بعضهم بعضاً، لأنه ومع ظهور مدافعين عن الحكم الجديد، ورافضين تحميله المسؤولية، جرى تصنيف كلّ من ينتقده في صفّ الفلول، ما زاد الاشتباك حدّةً.
اللهو بالقضايا الطائفية والدينية، التي لا تقدّم ولا تؤخّر، وإعلاء شأنها، سيؤدّي إلى إهمال القضايا المصيرية
أمام السوريين تحدّياتٌ لا تُعدّ ولا تُحصى في هذه الفترة التي تتطلّب الخروج من حقبة الأسد التدميرية، ومن حضيض الطائفية. بعض تلك التحدّيات يقارب الأزمة، وفي أحيانٍ يصل إلى مرحلة الاستعصاء والانسداد، حتى بات من الممكن الحديث عن "مسألة سورية"، استجدّت بعد سقوط النظام نتيجة صعوبة التعافي. لذلك تتطلّب تلك التحدّيات من السوريين، ومن الحكم الجديد قبلهم، الانفتاح على الآخر المختلف، من أجل الاستفادة من خبرات الجميع في عملية إعادة البناء، وجعلها تعطي الثمار التي ينتظرها سكّان الخيام والمَهاجرون وذوو المغيَّبين والضحايا والمحرومون، ومن أفقرتهم الحرب، أو مرحلة ما بعد الحرب، لكي تستقرّ نفوسهم بعد تلك التغريبة التي طالت أكثر ممّا توقّع لها أكثر الناس تشاؤماً. انفتاحٌ تكون التشاركية وعدم الإقصاء أساسه، لضمان نجاح مرحلة إعادة الإعمار، خصوصاً بعد الفرصة التي توافرت مع رفع العقوبات الغربية، فيساهم فيها الجميع بيده أو بعقله أو حتى برأيه، وإلا فإن النواقص، التي قد لا يشير إليها أحد من البطانة، خوفاً على الحكم الجديد من أي انتقاد، ستصبح بمثابة عصيّ في عجلات هذه المرحلة.
بات من الممكن الحديث عن "مسألة سورية" استجدّت بعد سقوط النظام نتيجة صعوبة التعافي
وزيادة منهم في التشظّي، يتناول السوريون المشتبكون في وسائل التواصل، إضافة إلى القضايا الطائفية، قضايا قوميةً، وفِكَراً كانوا سابقاً يتبنّونه، وباتوا الآن رافضين له. منها قضيتا الفيدرالية واللامركزية، سواء السياسية أو الإدارية، وأحياناً من دون البحث فيها لمعرفة مدى قدرتها على التلاؤم مع الحالة السورية. وفي وقتٍ لم يبتّ فيه الحكم الجديد بهذه القضايا، حكم عليها أناس كثيرون بأنها لا تلائم البلاد، ومن بينهم من كانوا ينادون بها أيام النظام السابق، نتيجة الإقصاء الذي عانته مدن مهمّة، مثل حلب على سبيل المثال، ونتيجة الحرمان الذي عانته مدن أخرى، تُعدّ منبع الثروات النفطية والغازية والغذائية، غير أنها كانت تحرم من عوائدها بسبب وضع طغمة الأسد وأفراد حاشيته أياديهم عليها. ولكن، هل لدى السوري وقت من أجل التأمل في حياته، وإجراء مراجعة لسلوكه، والخوض الجدّي والعميق في القضايا المصيرية؟
اللهو بالقضايا الطائفية والدينية، التي لا تقدّم ولا تؤخّر، وإعلاء شأنها، سيؤدّي إلى إهمال القضايا المصيرية، فيجد الواحد منا نفسه متأخّراً، فلا هو اكتشف ذاته وتيقّن من هُويَّته، ولا هو بات قادراً على استيعاب ما وصلت إليه حال بلاده حين بدأت تتراكم أعباء إعادة الإعمار، ولا هو استفاق على فشل حكومته أو نجاحها في إدارة ملفّ البلاد الاقتصادي من دون آلامٍ، هو وحده الذي سيتحمّلها، وربّما يورثّها إلى أبنائه، إذا فشل وأبناء جيله في التصدّي لها.