أم كلثوم والخبّاز الفرنسي

08 فبراير 2025
+ الخط -

قد يشغلُك، عندما تنتهي من قراءة رواية "فرديناند المصري" (الكتب خان، القاهرة، 2023)، سؤالٌ عمّ جعل كاتبها ماجد أوشي (1979)، ينهيها بنبْذ جموعٍ من المصريين الخبّاز الفرنسي المبدع في صناعة الخبز (بتنويعاته)، فرديناند لوجرون، عندما يحتشدون أمام سُكناه، ثم يُلاحقونه، لطرده من البلد، وربما قتله، وهو الذي جاء إلى بلدهم محبّاً له ولهم، بعد أن أغوته أغنياتٌ لأم كلثوم كان يسمعها في باريس، في أثناء عمله في مخبز والده الذي آل إليه تالياً، قبل أن يقرّر الإقامة في مصر التي كان يتردّد عليها، وأحبّ منها شابّةً (ماتت مع تتابع الحكاية في الرواية!)، حيث ينجح ويُصبح مشهوراً، لبراعته في صناعة الخبز (والكيك والحلويات و...)، ولمشاركته في برامج تلفزيونية مصرية. لقد أصبح متّهماً بأنه جاسوس، بعد أن قُبض عليه في أثناء تصويره مقابلة على الهواء معه. لم يثبُت عليه شيء، والشبهة مبنيةٌ على تفصيلٍ شديد الثانوية. والرواية إذ تقوم على شغف بطلها بمصر، وولعه بأم كلثوم، وعشقه مصريةً في القاهرة المتيّم بها، والتي أتقن التجوّل فيها، تُختتم بنفير مصري، وبالرصاص، ضدّه، سنتين بعد ثورة يناير. وتوازي الرواية حكاية الخبّاز الفرنسي هذه، الشائقة لا ريب، مع حكايةٍ عن أم كلثوم، سيّما في مطالع موهبتها، ببعضٍ من المعلوم في سيرتها، غير أن الكاتب "يعبَث" (ليس حكم قيمة وإنما تأشيرٌ إلى تخييل) في هذه السيرة، إذ يزوّجها في صباها الأول، ثم تُنجب ابناً يُصبح مغنّياً، اسمُه فريد، ويجعلها تمرض، حتى تكاد تفقد صوتها، ثم يفاجئها بليغ حمدي بقصيدةٍ فصيحةٍ يلحّنها لها (لم يلحّن بليغ أيّ قصيدة فصيحة في حياته، باستثناء نقشبنديّاته)، ثم تنطلق أم كلثوم بأغنية "فات الميعاد" من ألحانه.
تنهض الرواية، وهي الأولى لكاتبها المصري، على مفارقاتٍ ومصادفاتٍ، وعلى تداخل الحكايات وتشابكها وتقاطعها (وتكثر فيها الأخطاء النحوية مع بعض ضعف لغوي)، وتُمسك بخيوط السرد عن الشخصيات، الممتلئة بالتفاصيل، بتنويعٍ في ضمائر المتحدّثين، ومنها الراوي العليم. وتبدو في هذا كله روايةً مسلّيةً، تقيم اعتباراً ظاهراً للحكاية، وتكسر كل توقّعاتٍ قد تطرأ إلى ذهن قارئها، حيث مفاجآتٌ (هل ثمّة ما هو أكثر من أن أم كلثوم تُنجب مغنّيا؟) يبتكرها الكاتب، بغير اعتباطيّة، تترافق مع مقادير من العبث (رصاص في استديو تصوير على الهواء)، ومن السخرية (الاتهام بالتجسّس). غير أن الأساسيّ في مرسلة هذه الرواية، جيّدة المبنى والسوية، ما تبثّه عن قيمة الحرية مقرونةً بالإبداع، من مدخل احتفاءٍ بالخبز والغناء معاً. يقول فرديناند (يصبح فريد وفريدي في مصر) إنه كان يدين لأم كلثوم بما وصل إليه بالفضل فيما وصل إليه من شهرةٍ وإبداعٍ في عمله خبّازاً "لولا انفعالي بالمقطع الذي صرخَت فيه تطلب الحرية لما كنتُ واجهت أبي، ولا تحقّق لي ما أنا فيه الآن". عمل في صناعة الخبز ودرَسها أكاديمياً (هكذا تُخبرنا الرواية!)، وأتقن هذا بين المصريين الذين شعر بأنه منهم. يقول "يسافر المرء إلى أي بلدٍ فيغترب، إلا مصر، من يُسافر إليها يصيرُ من أهلها. كان شعوري يأتي بأني من أهل البلد موجوداً منذ اليوم الأول، وظلّ هذا الشعور يتزايد كل يوم طوال خمس وعشرين عاماً من العيش في القاهرة". وقال "اختبرتُ دفئاً في القاهرة لم أعرف أنه موجودٌ في الأصل، وأدركتُ وقتَها كم أن باريس باردة، انطبع بردُها القاسي على الفرنسيين، كما انطبع هذا الدفء الحميم على أهل القاهرة".
قد لا أجازفُ لو نسبتُ رواية ماجد أوشي إلى ما أبتدعُه (أو أفتعلُه؟)، وهو مسمّى الأدب الكلثومي، فرواياتٌ وقصصٌ ما زال كتّابٌ، أربعينيون غالباً (مصريون وغير مصريين)، يُغويهم أن يبنوها، أو يستوحوها، من سيرة أم كلثوم وأغانيها، أو يضفّرون سرودهم بكثيرٍ منها، أو ببعض حضورٍ لها. ولمّا صارت هذه الأعمال غير قليلة، بل نُفاجأ كل عام بجديدٍ منها، فذلكم (مفردة صحيحة) يُجيز تلك التسمية. وهذه ذكرى وفاة أم كلثوم في كل فبراير/ شباط كل عام (ونحنُ في عام أم كلثوم بحسب قرار مصري) تتيح مناسبة التقاط هذه النصوص، وإضاءةً عليها. ومحبّة الخبّاز الفرنسي المتخيّل أمَّ كلثوم، في روايةٍ تُنبئ عن كفاءة كاتبها وموهبته، تستحقّ الاكتراث أعلاه بها.

معن البياري
معن البياري
رئيس تحرير "العربي الجديد"، كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965.