أم جهاد وأبو جهاد معا

أم جهاد وأبو جهاد معا

15 ابريل 2022
+ الخط -

تكتمل في الساعات الأولى من يوم غد، 16 إبريل/ نيسان، 34 عاما على استشهاد القائد الفلسطيني، خليل الوزير (أبو جهاد)، في جريمة اغتيالٍ موصوفةٍ شهيرةٍ اقترفتها قوةٌ إسرائيلية، في منزله في تونس. والنافع، في الوقوف عند هذه الذكرى، ليس فقط أن نعرف أن 25 مسلّحا من جيش العدو ومخابراته أمكن لهم الوصول إلى المنزل في ضاحية سيدي بوسعيد الشاطئية، وتناوَب مجرمون منهم على قتل المناضل المحارب برصاصٍ كثيفٍ خمس مرّات، وإنما أيضا أن نعرف خليل الوزير أكثر وأكثر، ما كانه وما أدّاه، وما جعل الصهاينة يدبّرون له تلك الميتة. ولمّا كانت الذكرى هذا العام تأتي أسابيعَ بعد إصدار انتصار الوزير (1941)، زوجة الشهيد الكبير، كتابها "رفقة عمر ..." (المركز العربي للأبحاث ودراسات السياسات، بيروت، الدوحة، 2022)، فإن في الوُسع أن تكون استعادة سيرة خليل الوزير، بل واستذكار مرحلته أيضا، بإنارةٍ أكثر إضاءةً عليهما. وإنْ يبقى القول، من قبل ومن بعد، إن هذا الكتاب، الشائق حقّا، هو عن كاتبته (أم جهاد)، سيرتها وكفاحها وحضورها في الفعل الوطني الفلسطيني، السرّي والفدائي والحركي والنضالي والاجتماعي والوطني العام، منذ ما قبل زواجها من ابن عمّها خليل الوزير في 1961 في غزّة، غير أن شراكة الرفقة زوجةً للقائد ثقيل المقام، وأمّا لأولادهما الخمسة، 27 عاما، مع ما عبرا فيها من ارتحالاتٍ ومعاركَ ومواجهاتٍ وإبعادٍ من هذا البلد العربي وذاك، تجعلك تقرأ سيرة امرأةٍ لاجئةٍ فلسطينية، أوجدت لنفسها دورا ومكانا ومكانةً وفاعليةً وأثرا وإسهاما في مسيرةٍ طويلة، منذ بواكير الثورة الفلسطينية ومقدّماتها، وصولا إلى ما بعد العودة إلى الوطن في 1994، من دون أن تغفلَ عن أن في هذه السيرة سيرةً أخرى، قدّر الله أن يكون صاحبُها واحدا من أمراء الشهداء الفلسطينيين.

صحّ ما كتبته أم جهاد، في تقديمها كتاب مذكّراتها، إنها، في مسيرة النضال التي عاشتها، لم تكن قطّ المرأة أو الزوجة التي تقف على هامش الحلم بالحرية أو النصر. إنْ لا تحتاج هذه البديهية ما يؤكّدها، فالسيدة المحترمة مشهودٌ لها بهذا المعلوم، إلا أن قراءة ما وثّقته وسردتْه ودوّنتْه وجاءت عليه، وبعضُه كاشفٌ وجديد، مثّل، بالفعل، إضافةً خاصةً في حماية رواية التغريبة الفلسطينية، في منعطفاتٍ جوهريةٍ في مسارها. والذي تقرأه في "رفقة عمر ..." مكتوبٌ بأنفاسٍ حارّة، بعاطفةٍ حاضرة، بنجوى امرأةٍ لطالما قلقت على زوجها وهو في هذا الخطر وذاك الخطر. تلتحق به إلى طرابلس في لبنان، وهو يُقاتَل، مع جمعٍ فلسطينيٍّ كثير، يصدّون عدوان القريب والجار. تعدّ ساعاتٍ طويلةً في ليالٍ عديدات، وهو بعيد أو غير بعيد، قد تغدر به رصاصة، أو تأتي عليه نائبة. شاهدتْه يرميه المجرمون بالرصاص، في تلك الليلة التي لا يقدِر وصفٌ على وصفها، وقد دوّنت تفاصيلَها، وما كانت عليه مشاغله في ساعات ما قبل الجريمة. وإلى هذا كله، ومثلُه كثيرٌ وغزيرٌ في الكتاب، ثمّة لوعة الأم على أبنائها الذين فقدت واحدا منهم طفلا. وثمّة أشواق العروس التي أحبّت ابن عمها، ثم تزوّجته، فتسافر معه إلى الكويت شهورا، وقد اختارت شراكةً معه في عملٍ نضاليٍّ طويل، فيرتحلا إلى الجزائر التي تروي عن نشاط أبو جهاد ومسؤولياته فيها، وسط صعوباتٍ بلا عدد، في النصف الأول من الستينيّات، ما هو كثير الأهمية في تسجيل تلك المحطّة في مسيرة نخبةٍ فلسطينية نهضت بمشروعٍ وطني. ثم يمضي بك الكتاب إلى قواعد الفدائيين في الأردن، ثم إلى سورية ولبنان. ومع أبو عمّار ورفاقٍ كثيرين (بينهم محمود عبّاس)، ستقع على معمار كيانٍ فلسطينيٍّ ما كان لينبني لولا ثوارٌ وفدائيون ومثقفون وسياسيون من شعبٍ أعطى وقاوم وقاتل.

ليس "رفقة عمر .." كتابا في تاريخ منظمة التحرير، وإنما هو قصّة امرأة أسّست أول خليةٍ نسائيةٍ لحركة فتح، أطلّت شاهدةً، من غير موقع شخصي ونضالي، على محكّاتٍ سياسيةٍ لها حساسياتها. التقت الملك الحسين وطلبت منه إفراجا عن 45 شابا فلسطينيا من "القطاع الغربي" معتقلين في سجون أردنية فلبّى طلبها. وجادلت حافظ الأسد الذي يخبرها أنه لا يرى ضرورة قيام دولة فلسطينية، وإنما يؤيد قيام الدولة الموحدة من الأقطار العربية كافة (!)، وتطلب منه الإفراج عن "ضيوفٍ" فلسطينيين في سجونه، فيحدُث هذا بعد شهور. تُخبرنا عن كثير مثير، بعضه مفزع، من قبيل ما أبلغ به شابٌّ أبو جهاد عن تدبير أحمد جبريل لقتله في طرابلس. يأخذُك كتابها إلى أزمنةٍ راحت، كانت لإيقاعاتها ومناخاتها مذاقاتٌ أخرى، سقى الله!

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".