أم الشهيد فواز حمايل وعتبة الدار

أم الشهيد فواز حمايل وعتبة الدار

27 ابريل 2022

أم الشهيد فواز حمايل (صفحة فلسطين بوست في تويتر)

+ الخط -

يقف قلمي عاجزاً أمام فقد الأمهات أبناءهن، وأذكر دوماً دعاء أمي، رحمها الله. لست أعرف كيف وفقت لهذا الدعاء طوال حياتها، وكأنها منيت بالإجابة، وربما لأنها أحبّت أولادها أكثر من أي شيء في هذه الحياة، وكانت مثل الدجاجة التي تضم كتاكيتها الصغار تحت جناحيها، ولأن أمي أيضاً كانت تسمع مثلاً تردّده أمها؛ أي جدّتي، حيث كانت تقول "رؤيتهم في الدروب ولا حسرتهم في القلوب". ولذلك، كان دعاء أمي الدائم الذي يلهجُ به لسانها "يا ربّ ما أشرب حسرة واحد من أولادي". وهكذا، وباللهجة الفلسطينية، رفعت أمي كفيها وقلبها بالدعاء، وتقصد أمي أنها ترجو الخالق ألّا تفقد أحداً من أولادها في حياتها، فهذا بالنسبة لها حسرة ليس بعدها حسرة تشربها أمهاتٌ كثيرات، وتحسب أمي أنها لن تطيقها.

وهكذا، يقف قلمي عاجزاً كأمّ أمام حسرة فقد الأبناء، وأصمت طويلاً وأسرح وأتخيّل وتتجمّد الدموع في مقلتيّ، ولا أجد ما أقوله أو أكتبه، حتى إنني أتأخر في تقديم واجب العزاء لأمٍ فقدت ابنها، صغيراً كان أم كبيراً. هكذا أجد نفسي غير قادرةٍ على مواجهة عينين حزينتين شربتا الحسرة باكراً، فلا حسرة أشدّ وأكثر مرارةً من فقدان فلذة الكبد ومهجة الروح.

وهكذا أمام صورة أم الشهيد فواز حمايل، تجمّدت الدموع والكلمات، نظرت إليها طويلاً وكثيراً، وتأملتها وتفحّصتها أكثر من أي أحد، ربما فعلت ذلك أمهاتٌ مثلي يعشن هاجس الفقد ويبكين في صلواتهن وهنّ ساجدات تحديداً، وفي هذه البلاد الموعودة برحيل الأبناء قبل الآباء والأمهات، ربما استودعن أولادهن كثيراً، ودعوْن الخالق وألححن في الدعاء أن يرحلن، قبل أن يصيب أحداً من فلذات أكبادهن أيّ مكروه. ولذلك فهن قد تأمّلن كل هذا الألم، وكل هذا الانتظار الأخير المترقب والمتوقع لوصول الابن، وهذه المرّة ليس على قدميه، ولكن محمولاً على الأكتاف.

توقعت أم فواز حمايل (شهيد الجبل)، ابن قرية بيتا الصامدة الصنديدة، أن يسقط شهيداً، وأن يسلّم الراية لغيره، وكانت موقنة بذلك أمام إصراره على الرباط فوق جبل صبيح ليمنع المغتصبين من تنفيذ مخطّطاتهم للسيطرة على قمته، وإقامة مستوطنة، ومدرسة دينية عليها، فقد كان يرابط مع رجال البلدة على قمة الجبل، وحين يشتبكون مع قوات الاحتلال فهو لا يتوقف عن الاشتباك معهم بذراعه العارية، ووجهه الباسم المتفائل، والمصرّ على الذود عن أرض الوطن حتى آخر رمق.

وهكذا، جلست أم فواز حمايل أمام عتبة الدار تنتظر أن يعود للمرّة الأخيرة، مضرّجاً بدمه محمولاً على أكتاف أحبته وشركائه، تنظر نحو قمة الجبل حيناً، ونحو الشارع الضيق الذي يقبل منه المشيعون لكي يضعوه أمامها؛ انتظاراً لنظرة وداع أخيرة. ولعلها في تلك اللحظة وهي تجلس في انتظاره، تخيّلت الحياة بدون ولدها، فظهر كل هذا الأسى واحتشد كل هذا الدمع.

تساءلتُ مغرّدة على موقع توتير، في تعليق على الصورة "كيف ستعيش هذه الأم بعد ولدها؟"، وقد سألت نفسي هذا السؤال، بعد أن شهدت وداع كثيرات أبناءهن شهداء، فرأيت الفقد في عيونهن يزداد والنظرة الملتاعة الباحثة المتفحصة عن وجه الغائب بين الوجوه تتّسع، وقد اكتشفت أن ما يشبه المغناطيس يجذب أمهات الشهداء، فترى صحبةً طارئةً تنشأ بينهن، فيلتقين في بيوت العزاء وأمام شواهد قبور أحبتهن، ويسألن بعضهن عن أحوال بعض، ويتعارفن ويتزاورن بعد ذلك، بل سمعت وعرفت عن علاقات مصاهرة قد حدثت بفعل هذه الصحبة الطارئة التي بُنيت على التربيت على جرح واحد، فلا يشعر بأم ثكلى إلا مثلها، وبعد هذا الشعور كل شيء يهون.

أم الشهيد التي جلست أمام عتبة الدار للمرّة الأخيرة لا تنتظر فواز ليعود من العمل، ولا ليعود من السوق، إنما تنتظره محمّلاً بحيوات أخرى لآخرين ما زالوا على الدرب، ويحفظون الأمانة التي تركها.

avata
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.