أمّا نحن فقد أحرقنا مراكبنا

05 سبتمبر 2025   |  آخر تحديث: 02:38 (توقيت القدس)

سفن في أسطول الصمود العالمي تتوجّه من برشلونة نحو قطاع غزّة (31/8/2025 Getty)

+ الخط -

لا يتوقّف أحرار العالم عن محاولات الإبحار إلى غزّة، ولا يكفّ العرب عن الانبهار بشجاعة الأحرار، محاولة وحيدة للانتقال من موقف الانبهار إلى المبادرة بكسر الحصار تصدّت لها، ببسالة، السلطات المصرية، بمعاونة المليشيا الحفترية الليبية، وأجهضتها وردّتها على أعقابها في يونيو/ حزيران الماضي.

 كان المشاركون في مشروع قافلة الصمود الشعبية التي ضمّت أشقاء من أقصى الغرب العربي، موريتانيا، عبوراً بالمغرب والجزائر وتونس وليبيا، يظنّون أنّ الطريق مفتوح للوصول إلى معبر رفح البرّي المصري في تظاهرة عربية سلمية دعماً للشعب الفلسطيني في غزّة المحاصرة. أخطأ مسيّرو القافلة حساباتهم حين تصوّروا إمكانية التقاط السلطات المصرية هذه الفرصة الذهبية، لكي تنفض عن نفسها غبار الاتهامات بخذلان الشعب الفلسطيني المُحاصر بالجوع والموت، وأن تظهر موقفاً قوميّاً وإنسانيّاً أمام عدو يبتزّها ويسخر من دورها، لكنهم تفاجأوا بأنّ القاهرة كانت قد حشدت قواها الإعلامية والأمنية والسياسية للإجهاز على المحاولة.

هذه المرّة، انطلق أحرار العالم من برشلونة الإسبانية مارّين بشواطئ إيطاليا وموانئ جنوب المتوسط بالسفن الكبيرة والمراكب الأقل حجماً والقوارب الشراعية في أوسع تظاهرة عالمية لكسر الحصار على قطاع غزّة، عشرات السفن وآلاف المناضلين من أجل الإنسانية يزرعون البحر بأعلام فلسطين، فينضمّ إليهم أحرارٌ آخرون من كلِّ فجٍّ عميقٍ في الرحلة إلى شاطئ غزّة، يملأهم الإصرار على الوصول هذه المرّة، بالنظر إلى الأعداد الهائلة من السفن والبشر في أسطول الصمود، بعد محاولتين سابقتين تصدّت لهما سلطات الاحتلال، مع السفينة مادلين، ثم السفينة حنظلة.

قبل عقود، كان المناضلون من أنحاء العالم يلتحقون بفعاليات النضال الشعبي على الأرض العربية ضدّ الاحتلال الصهيوني، أما اليوم فلم تعد الأرض العربية تنبت نضالاً ولا تطيق المناضلين، فصار العرب الأحرار إذا ما أرادوا النضال من أجل فلسطين فعليهم الالتحاق بفعاليات عالمية لا يستطيعون "ارتكاب" مثلها في بلدانهم التي ترى فلسطين تُذبح من الوريد إلى الوريد، فلا يصدُر عنها سوى همهمات خجلى. 

على أنّ كثافة الحشد البحري العالمي لا تعني، بالضرورة، أنّ الاحتلال الإسرائيلي سيكون أقلّ إجراماً وأكثر تسامحاً مع الأسطول، ذلك أنّ العقلية الإجرامية التي قرصنت "مادلين" و"حنظلة" أكثر توحّشاً وسُعاراً هذه الأيّام، كذلك فإنّ حكومة الاحتلال باتت على قناعةٍ بأنّ القانون الدولي والقانون الإنساني لا يسريان عليها، بل أنت صرتَ تنظر إلى هذه الأمور بسخرية شديدة، فضلاً عن أنّها تُدرك أنّها محميّة بغلافٍ سميكٍ من العجز  العربي، الاختياري، أمام رغباتها التوسّعية، وإلا ما أقدمت على دهس كلّ ما وقّعت عليه من اتفاقياتٍ مع أطرافٍ عربية بحذائها، فلم تعد تعبأ ببنود "كامب ديفيد" و"وادي عربة" و"أوسلو"، وها هي الآن تُمارس عمليّاً شطب فكرة الدولة الفلسطينية من الوجود بإجراءات التهجير والضم في الضفة الغربية، وكانت في السابق قد احتلّت محور صلاح الدين (فيلادلفي) الرابط بين مصر وفلسطين المحتلة.

في هذه الأثناء، وبعد أن أفصح نتنياهو عن حلم "إسرائيل الكبرى" التي تتمدّد في أراضي مصر والأردن وسورية ودول عربية أخرى، جاء الوقت لكي يستخدم سياسة "العصا والجزرة" مع مصر، فبعد إعلان صفقة الغاز الطبيعي الأضخم في التاريخ مع القاهرة، ها هو يلوّح بالعقاب  للحكومة المصرية، من خلال تسريب أنّه أوعز بتعليق تطبيق الاتفاقية. يستخدم رئيس حكومة الاحتلال، المُصنّف مجرم حربٍ بقرار المحكمة الجنائية الدولية، الغاز الطبيعي ورقة ضغط على النظام المصري، الذي كان قد احتفل بتوقيعها قبل أسبوعين، بوصفها من إنجازاته الهائلة، فيخرُج رئيس هيئة الاستعلامات، ضياء رشوان، ليقول له بطريقة مسرحية بائسة: "ما تقدرش"، ثم يسترسل في بيان عدم قدرة نتنياهو على إلغاء الصفقة، فيزيد الطين بلّة حين يقول: "مكاسب اتفاقية الغاز تميل لإسرائيل أكثر من مصر"، وإن نتنياهو لا يتحمّل النتائج الاقتصادية لإلغائها.

أنت بصدد إقرار من مسؤول رسمي مصري بأنّ إغراق مصر بالغاز مصلحة صهيونية، أكثر منها مصلحة صهيونية. هذا على المستوى الاقتصادي، أما على المستويين، الأخلاقي والتاريخي، فأكرّر ما كتبته، قبل أكثر من ثلاثة أعوام، حين أعلن الجانب الصهيوني التوقيع على اتفاقية مع الاتحاد الأوروبي، تجعل مصر شريكاً كاملاً في جريمة سرقة الاحتلال الإسرائيلي الغاز الطبيعي من فلسطين المحتلة، وإسناد مهمّة تغليف المسروقات ونقلها للبيع في أسواق أوروبا للحكومة المصرية، التي تحتفل، بمنتهى السعادة، بنجاح جهودها في سرقة تاريخ فلسطين وحاضرها ومستقبلها، بوصفها الحامية للص الصهيوني، والقائمة على حراسة (وتأمين) مسروقاته من فلسطين حتى عبور الأراضي المصرية، بسلام إسرائيلي، ليغذّي أوروبا. 

يعلم ضياء رشوان قبل غيره أنّ الصهيوني لا يعبأ بالمكاسب الاقتصادية من صفقات الغاز مع مصر، ذلك أنّ عينيه طوال الوقت على المكاسب السياسية منذ البداية، وبالتحديد منذ قرّر حسني مبارك تصدير الغاز المصري إلى إسرائيل، بزعم أن لدى مصر فائضاً من الغاز الطبيعي لا يحتاجه الاستهلاك المحلي، ولا بُدّ من تصديره إلى الخارج، بما فيه إسرائيل.

يتكسّب الاحتلال من وضعية أن يمارس بحقّ الشعب الفلسطيني إبادة جماعية وتطهيراً عرقياً، ويحتل غزّة ويعيد احتلال الضفة الغربية، فلا يجد موقفاً عربيّاً واحداً يردعه، بل يعلن في ذروة المذابح أنّ مصر، الشقيقة الكبرى، وقّعت اتفاقية بقيمة 35 مليار دولار، تجعل الاحتلال الصهيوني موجوداً في كلّ بيت مصري عبر أنابيب الغاز المُمتدّة من فلسطين المحتلة إلى عمق مصر.

 يربح نتنياهو سياسيّاً عندما يتدنّى دور مصر، المختنقة بالغاز الحرام، في الصراع، إلى وظيفة إصدار بياناتٍ لا يلتفت إليها أحد، والاكتفاء بمناشدة المجتمع الدولي، تتفرّج على أساطيل الحرية، بإعجاب، ما دامت بعيدة عنها، حتى إذا ما اقتربت من معبر رفح حشدت كلّ قواها ضدها.

يهرع العالم الحرّ بسفنه ومراكبه صوب غزّة، أما نحن فكما قال محمود درويش في مأساة بيروت، فقد أحرقنا مراكبنا، ليس في مصر فقط، بل وكما تقول القصيدة التي تبدو كأنها مكتوبة اليوم:

 من المحيط إلى الجحيم/ من الجحيم إلى الخليج/ ومن اليمين إلى اليمين إلى الوسطْ/ شاهدتُ مشنقةً بحبلٍ/ واحدٍ/ من أجل مليونيْ عُنُقْ.

وائل قنديل (العربي الجديد)
وائل قنديل
كاتب صحافي مصري من أسرة "العربي الجديد" عروبي الهوية يؤمن بأنّ فلسطين قضية القضايا وأنّ الربيع العربي كان ولا يزال وسيبقى أروع ما أنجزته شعوب الأمة