أميركا وترامب ليسا قدرنا
نقل ترامب السياسة الخارجية الأميركية من الانكماش الذي كان سمة مرحلة سلفه بايدن، إلى التوسع، من التزام الصمت إلى الاشتباك. في ما يتعلق بالحرب على غزّة والموقف من مجمل القضية الفلسطينية، فرض ترامب واشنطن طرفاً في كل شيء، ليس في الحرب من خلال الدعم المطلق الذي منحه لتل أبيب، بل أيضاً من خلال تبني وجهات النظر وتقديم المقترحات لإنهاء غزّة، وليس لإنهاء الحرب. اعتمدت إدارة بايدن في سياستها الخارجية أكثر على الانكماش وعدم الاشتباك، حتى بدا أن الإدارة في ذلك الوقت غير مهتمّة أساساً بتفاصيل الصراع بين الفلسطينيين وإسرائيل. فأربع سنوات لم تقم الإدارة خلالها إلا ببعض تحرّكات واهنة غير جدّية من أجل التدخل في حل الصراع. مرت أربع سنوات ولم نجد أي مبادرة حقيقية من الإدارة السابقة.
وباستثناء تأكيد التزام بايدن حلّ الدولتين، وأن هذا الإطار القائم على وجود دولتين لشعبين هو الأمثل لإنهاء الصراع المزمن في المنطقة، لم تقدم إدارة بايدن أي شيء. ويبدو هذا الموقف مثل أي موقف محايد لا يريد أن يتبنّى موقفاً، فهو يعيد تكرار المقولات العامة حول الصراع وسبل حله. بالضبط، كان سيقول القول نفسه أيّ أستاذ علوم سياسية في جامعة أميركية ما. ومع هذا، لا بأس من المحاولة. لا بأس من إيفاد رجالات الإدارة بين فترة وأخرى ليتحدّثوا إلى قادة المنطقة ويناقشوا معهم بعض القضايا العامة بشأن الخلافات الجارية. لم يحمل رجالات الإدارة أفكاراً ولا مقترحات، ولم يبنوا أي تصورات ولا رؤى حول الصراع وسبل حله.
شهدنا في عهد بايدن حالة من الانكماش الأميركي في العالم. كان ثمة توجه أميركي للانكماش، وعدم التدخل إلا بالحد الأدنى في الشؤون الخارجية. ومع الوقت، بات هذا الانكماش واضحاً، وكان من علاماته الفارقة الانسحاب من أفغانستان وتسليم البلاد لحركة طالبان التي شُنَّت حرب مدمرة لإطاحتها قبل عقدين. وأيضاً في ما يتعلق بالصراع في الشرق الأوسط جرت مياه كثيرة تحت الجسر، ولم يكن التدخل لإخماد الحرائق بالأولوية نفسها.
لم يغيّر ترامب النهج الشامل والضعيف لإدارة بايدن، بل ابتدع نمطاً عشوائياً في السياسة الخارجية، يمكن ملاحظة مدى الفوضى التي تأسس عليها هذا النمط في الإخراج الإعلامي لترامب، وهو يوقع مثلاً قراراتٍ مثل فرض الضرائب على المسكيك أو مطالبة بنما بتسليم القناة. وكرجل صفقات، يعتقد ترامب أن المال والقوة يمكن ان يفعلا أي شيء. وهو نظرياً وفي عالمه المضطرب أخلاقياً وفي ظل عدم وجود قوة مقابلة له، يبدو ما يتصوره صحيحاً. وعليه، فهو يتصرّف وكأن الكوكب شركة كبيرة تستحوذ واشنطن على أكبر عدد من أسهم العقار، وهي تسعى من أجل توسيع حصتها. في تطور الرأسمالية التقليدية كان هذا المنطق جوهر الجشع الذي تأسست عليه، وإن كانت تلتزم بعض أخلاقيات السوق؛ لكنها تلك الأخلاقيات التي تقول إن الضعيف يموت في النهاية. وعليه، أخذ ترامب الرأسمالية وأخواتها، مثل الإمبريالية، إلى الحد الأقصى للقوس. العالم عقار، والعقار موضع نزاع بين الجميع، بل إن إيالون ماسك يفكر لترامب في توسيع العقار إلى الكواكب الأخرى من خلال استعمار بعض الفضاء.
الحقوق لا تمنح بصكوك وما لم تظل سرديتنا حاضرة ينساها الجميع
لا يجب الاستخفاف بأفكار ترامب رغم سخافتها. وفيما قد ترمي فقط إلى الضغط على الشركاء العرب للتخلص من فكرة غزة، فإنها أيضاً تحمل في طيّاتها بذرة تنفيذها. ذهب الرجل إلى آخر ما يمكن تخيله حول حل الصراع في غزّة. لينقضّ على غزة بشكل كامل، ليس من خلال الصراع المسلح، بل من خلال إفراغها من السكان. وبقدر ما قد تبدو فكرة مجنونة، إلا أن فكرة استعمار فلسطين وطرد سكانها كانت فكرة مجنونة، ولو قدّر لي أن أهمس في أذني جدتي عيشة وهي تستجم على شاطئ بحر يافا قرب بيتها في أربعينيات القرن الماضي أنها ستعيش في خيمة وتموت في مخيم، وأن عائلة بولندية ستسكن في بيتها، لظنت أن الطفل القادم من المستقبل يهذي. ومع هذا، أعاد ترامب القضية والصراع إلى جوهره الذي لم يعد يتذكره أحد. أساس القضية هو ما حدث في النكبة من تهجير وسرقة للبلاد وإقامة دولة أخرى عليها. وليست القصة رصف شارع ولا بناء مدرسة ولا وزارة، القصة قصة شعب يُقتلَع من أرضه. كان يجب استخدام تهديدات ترامب لتذكير العالم بما حدث لنا قبل 76 سنة، وأن جوهر ما يحدث عملية اقتلاع مستمرّة للفلسطينيين من أرضهم، وبالتالي، ما يجب وقفه ليس فقط خطة ترامب، بل يجب تصحيح مسار التاريخ الذي "اعوجّ" يوم هُجِّر شعبنا.
الحقوق لا تمنح بصكوك وما لم تظل سرديتنا حاضرة ينساها الجميع. العالم لديه مشاغل أخرى. لاحظوا ردة الفعل الدولية على تصريحات ترامب. يبدو العالم خائفاً أيضاً، فترامب يهدد الجميع، وهو يريد أن يثير أكبر قدر ممكن من الفوضى حوله، مثل الدخان الذي يحمي به نفسه من كل شيء في العالم الخارجي؛ كبسولته الخاصة. وبالعودة إلى الفرق بين سياسات ترامب وسياسات من سبقوه، فإن الفوضى الخلاقة التي تحدّث بها وطبقها المحافظون الجدد وهم أسلاف الترامبية، تبدو ناعمة أمام ما يقوم به ترامب. فالأفكار بالنسبة إليه مثل السلعة، يغرق السوق بالسلع، وعلى الآخرين أن يقدموا سلعاً أكثر قبولاً حتى ينافسوا. لذلك، نسمع طاقمه يتحدث عن أن خطة ترامب هي الوحيدة (يقصدون السلعة الوحيدة) الموجودة على الطاولة (يقصدون في السوق) وأنهم في انتظار العرب أن يقدموا أفكاراً أخرى (يقصدون سلعاً أخرى).
يظل السؤال الذي يمكن أن يترجم ما يعتمل في عقل المجتمع الدولي: هل انتهت الفرص لحلّ الصراع؟ يبدو السؤال منطقياً وبحاجة للتأمل، فأكثر من خمسين عاماً على هيمنة خطاب حل الدولتين على أساس "4 حزيران" لم تنجح في تحقيق أي اختراق حقيقي نحو الحل. يمكن النظر إلى مؤتمر مدريد، وبعد ذلك اتفاقية أوسلو بوصفهما الاختراق الوحيد الذي كان يمكن له أن يقود إلى الاقتراب من الحل.
لم تعد إسرائيل تجد حاجة للتفاوض مع الفلسطينيين حول الحل السياسي
ليست القصة على ماذا نتفاوض، بل هل نتفاوض من الأساس؟ لم تعد إسرائيل تجد حاجة للتفاوض مع الفلسطينيين حول الحل السياسي. جلّ ما قد تذهب إليه هو الحديث معهم حول تفاصيل العلاقة الميدانية معهم على الأرض، حتى يُخفَّف الاحتكاك بين المستوطنين والسكان. وفي غزة، الأمر قيد النقاش، إذا نجحت خطة ترامب كان به، وإن لم تنجح فسيوجد اتفاق إطار خاص بغزة يضمن تقليص أحلام الفلسطينيين هناك إلى تصورات اقتصادية ومعيشية وبعض الفنادق والمنتجعات على طريقة ترامب. إحدى المقاربات التي قدّمتها إدارة ترامب قامت عبر تصفية الصراع وليس حله. في سياقات معينة، عليك البحث عن موقف، وليس عن مخرج. لم تختر إدارة ترامب فقط الانحياز الكامل لصالح إسرائيل، بل أعربت بحزم عن أن مهمتها إنهاء موضوع غزّة وتصفية ما تعتبره "صراعاً" في الضفة، من خلال حثّ إسرائيل على ضمّ الضفة الغربية. وجهة نظر غير أخلاقية وتضر بالحقوق السياسية للشعب الفلسطيني، لكنها تعكس الإرادة الحقيقية بعدم المقدرة على إنجاز الحل الممكن وفق "برادايم" الدولتين. ... لاحظوا ترامب تحدث مع الجميع إلا مع الطرف الفلسطيني، ولاحظوا أن كلمة "الدولتين" لم ترد في أي خطاب أو موقف. الأمر بات من الماضي. يجب البحث عن "مقايضة" جديدة.
هل المطلوب من العرب أن يقدموا خطة بديلة؟ بالطبع، ليس الحديث عن خطة سياسية، لأن الخطة السياسية العربية موجودة منذ قمة بيروت 2003، بل المطلوب خطة لإخراج غزّة من الصراع. المطلوب ألا تشكل غزة أي تهديد مستقبلي لإسرائيل في العقود المقبلة. إذاً القصة ليست قصّة إعادة اعمار، ولا هي كيف نبني فيما المواطنون موجودون في غزة، ولا أين ننقلهم حتى تنتهي عملية إعادة الإعمار، هذا ليس ما يتوقعه فريق ترامب، يتوقّعون كيف يمكن أن تصمت غزّة إلى الأبد، وكيف يمكن تخفيف الضغط الديمغرافي في الشريط الساحلي المكتظ، وكيف يمكن أن تعيش غزّة بسلام من دون أن تسعى للقتال مرة أخرى.
ترامب تحدث مع الجميع إلا مع الطرف الفلسطيني
في تصورات عالم السوق، الأساس أن تكون السلعة قابلة للمقايضة، وعليه، المقترح العربي كما تتوقعه إدارة ترامب يجب أن يكون مقبولاً ويمكن شراؤه. لاحظوا العبارة الإنكليزية حين يتعلق الأمر بقبول الأفكار تقول: "فكرة يمكن بيعها". وهذا هو المنطق. في المقابل، يجب أن لا يعتمد الموقف العربي الحازم على تطوير تصورات مقابلة، لأن هذا هو القصد من طرح ترامب فكرة تهجير غزّة، فهو يعرف أنها فكرة قد لا تتحقق، ولكن من قال إنه سيقاتل من أجل أن تتحقق، إنه يريد أن يتحلل من فكرة ومن مسؤولية إيجاد حل، ويجعل المهمة مهمّة الآخرين. وبذلك يضع الجميع في موقف الدفاع وردة الفعل، فيما لسان حاله يقول: لا أرى أي حل إلا ما عبّرت عنه من طرد أهل غزة. وعليه، سيجد العرب في تقديم فكرة أخرى وتحمّل تكاليفها مهمة مقدسة، وإنجازاً.
لكن هل هذا هو المطلوب من وجهة نظر عربية؟ أظن أن المطلوب مواجهة إدارة ترامب بشكل حازم ووضع العلاقات العربية الأميركية على المحكّ. ما لم تشعر أميركا بأن "تخبّط" ترامب سيجلب لها أزمات اقتصادية وسياسية في علاقتها بالمنطقة العربية، فسيواصل الرجل التعامل مع غزّة والضفة على أنها سلعة قابلة للبيع والتداول. أميركا وترامب ليسا قدرنا.