أميركا تستثمر دم معاذ
شكل فيديو حرق عصابة داعش الطيار الأردني، معاذ الكساسبة، في طقوس شبه احتفالية مقززة، نقلة في الرأي العام الأردني، إذ علت أصوات الانتقام، متأثرة بهول الجريمة، وخفتت الأصوات المعارضة للحرب، لكن الانجرار إلى حرب لا تقودها الأردن، ولا تحدد مسارها وأهدافها هي مغامرة خطيرة، لن تفيد إلا مخططي الحرب في واشنطن، ودعاة التطرف في المنطقة.
التقط النظام لحظة الغضب والحزن الجارف للتعبئة، ليس فقط لتدعيم شعبية له، خصوصاً بعد أن فقدت الحكومات الأردنية المصداقية. ولكن، دعما للحرب الأميركية نفسها على أساس أن الحرب لم تعد أميركية، بل أردنية خالصة، وبالتالي، تصبح معارضتها بمثابة إهدار لدم الشاب العشريني، الذي هزت لحظات حياته الأخيرة قلوب الأردنيين، بغض النظر عن الموقف السياسي أو العقائدي.
المأساة في وحشيتها، خصوصاً أن داعش جعلتنا شهوداً لها، فرصة لتقويض تأييد للعصابة المنظمة، خصوصاً بين السلفيين أو الشباب الذين يتأثرون بتبريراتها الدينية، وقد يرون فيها سبيلاً لانتقام اليائس والمهمش من ظروف عيشه، ولا سيما وأن معاذ نفسه ينتسب إلى عائلة مكافحة، أرهقها الفقر، ووجدت لابنها فرصة عمل ومكانة في الجيش، مثل عشرات ألوف الأسر الأردنية.
هي، أيضاً، فرصة لضرب هالة داعش "الإسلامية" إلا عند غلاة المتعصبين، فالحرق، أو حتى قتل الأسير، وفقاً لإجماع أغلب الفقهاء، يتناقض مع تعاليم الإسلام، لكن النظام اختار تجيير المأساة ومعانيها النفسية للتجييش مع الحرب، وكأن الأردن ترسم استراتيجيتها، وكأن الدول المشاركة فيها يهمها حياة معاذ أو عذابه حتى الموت، أو فجيعة والدته، ودموع والده.
أصبح معظم الإعلام الأردني، ومنذ انتشار الخبر، في حيز النفوذ الرسمي؛ ولا أقصد، هنا، في التعبير عن حالة الحداد والحزن، ولا عن بث أو كتابة مقالات دموع صادقة، لامست روحها وأحرقتها النار التي التهمت جسد معاذ، بل أتحدث عن حملة موجهة للخلط المتعمد بين مشاعر إنسانية طبيعية، وأهداف سياسية، لا ترى في النار القاتلة سوى شعلة حرب، ترضي أهداف واشنطن وأحلامها.
"هي حربنا"، الشعار الذي ردده المسؤولون السابقون والحاليون واللاحقون، والذين يعرفون، بل ويتذمرون من، أن قوى التحالف الدولي لم تأبه بحياة معاذ منذ أسره حتى إحراقه حيّاً، فهو ليس أكثر من "جندي في معركة"، ولا يهمها سوى توظيف تأثير الجريمة العاطفي، لكسب التأييد للحرب وتدعيمها.
حجة هؤلاء أن معركة القضاء على داعش مصيرية للأردن والعالم العربي، والمشكلة في هذه الحجة أولاً أن أصحابها يعرفون، تماماً، أن جذور التطرف موجودة في داخل المجتمع الأردني، في الفقر والتهميش والنظام التعليمي، وأنهم يعرفون جيداً أن أميركا تقود الحرب، ولا تسمح للأردن بغير ما يخدمها.
ما يحصل هو حملة لمنع الأسئلة وتكميم الأفواه، حول الحرب ودور الأردن ومواجهة تبعاتها، فمن المثير للاستغراب أن يبدأ الأردن في التحدث، رسميّاً، باسم التحالف الدولي، فماذا لو كانت المعلومات غير دقيقة، كما رأينا في حروب أميركا السابقة؟ وماذا لو دمرت، وقتلت مئات المدنيين في الرقة وغيرها، وبالتالي، يروج الأردن رواية غير دقيقة باسم التحالف؟
هذه مسؤولية كبيرة، إذ سيواجه الشعب الأردني، بقربه الجغرافي، غضب الضحايا المدنيين، وحينها تتنصل أميركا من أي مسؤولية: صيحات الانتقام الشعبية طبيعية، لكن الحرب تديرها عقول باردة، فلا تجعلوا من حزننا ورفاة معاذ وقوداً لحربٍ، ليس لنا فيها قول أو فعل سوى الطاعة والتنفيذ.