أميركا الملكية وبريطانيا الديمقراطية
الرئيس الأميركي ترامب (يسار) والأمير أندرو ماونتباتن- ويندسور في لندن (3/6/2019 Getty)
لو لم يعرب دونالد ترامب عن حزنه العميق للقرار التاريخي الصادر الخميس الماضي عن قصر باكنغهام في لندن، بتجريد أندرو ماونتباتن-ويندسور من كل ما يربطه بالعائلة الملكية، بسبب علاقاته بجيفري إبستين، زعيم شبكة الاتجار الجنسي بالقاصرات لزبائن سياسيين ورجال أعمال ومشاهير، لتسرّب الشك إلى مسلّمات تكوّنت لدينا بشأن (لا) أخلاق الرئيس الأميركي. وليس ترامب أحد الزبائن المحتملين للشبكة المذكورة فحسب، بل هو أيضاً صاحب البرهان على أنّ لدى النظام الرئاسي الأميركي قابلية استثنائية للتحوّل إلى ملكية مطلقة إن سكن البيت الأبيض شعبوي متطرّف عدوّ للديمقراطية مثل الرئيس الحالي. ولأن الشيء بالشيء يُذكر، لو لم يُصدر الملك تشارلز بيانه الذي تبرأ فيه فعلياً من شقيقه الأصغر أندرو (65 عاماً)، لكذّب ربما كثيراً من القرائن على القفزات الهائلة التي حققتها الملكية الدستورية البريطانية في مجالات الحداثة، إلى درجة باتت جديرة بتسميتها مجازياً "ملكية ديمقراطية"، وهما مصطلحان يستحيل الجمع بدقة بينهما في عبارة واحدة، بما أنّ النَّسَب ورابطة الدم لا يستويان مع الانتخاب وتداول السلطة العزيزين على الديمقراطية.
المهمّ أن أندرو ماونتباتن-ويندسور لم يعد أميراً، وقد نزع عنه شقيقه الملك صفة "صاحب السموّ الملكي" وصفة الدوق والنبيل والبارون وكل رتبه العسكرية (قبطان مروحية عسكرية في حرب المالفيناس ــ الفوكلاند 1982) وكل الامتيازات الملكية، وسحب منه إقامته الملكية في قصر Royal Lodge (5 كيلومترات جنوب قصر ويندسور) حيث استضاف عام 2006 جميع أفراد عصابة إبستين تقريباً لإحياء العيد الـ18 لابنته، بعد شهرين من صدور أول مذكرة توقيف بحق إبستين بتهمة اغتصاب قاصر، وفق ما كشفته "بي بي سي" في 28 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهو ما زاد زيتاً تحت نار قرار قصر باكنغهام وسرّع صدوره.
تقدّم القصة لمحبّي صحافة التشويق، الصفراء والرصينة، كنزاً من التفاصيل المأساوية التي لا يجوز أخلاقياً التفكير فيها إلا بوصفها جريمة متسلسلة بحجم اغتصاب قاصرات، ومنهنّ فيرجينيا جيوفري عندما كانت تبلغ 17 عاماً، وقد انتحرت عن 41 عاماً في إبريل/ نيسان 2025، بعد ست سنوات من موت أحد مغتصِبَيها، جيفري إبستين، بالطريقة نفسها، انتحاراً في 2019. أما المتهم الثاني باغتصابها، أندرو ماونتباتن-ويندسور، فلا يزال حراً، وقد دفع لها 16 مليون دولار لتسوية الدعوى القضائية التي رفعتها عليه. وعن هذه المسألة، ستبقى حلقة برنامج "نيوزنايت" على "بي بي سي" في مثل هذه الأيام من نوفمبر/ تشرين الثاني 2019، من أشهر المقابلات التي عرفها تاريخ التلفزيون وأكثرها تأثيراً في تغيير مسيرة شخصية عامة بوزن دوق يورك.
لكن ما يعنينا في هذه العجالة مركزية الكذب بوصفه ضربة قاضية لشقيق الملك، وفضيلة يحلّق دونالد ترامب على جناحها. ما عجّل من صدور مانيفستو باكنغهام بحق أندرو، كشْف صحف بريطانية قبل أيام أن الأمير المخلوع تواصل مع إبستين في فبراير/ شباط 2011 عبر البريد الإلكتروني، وكتب له ما حرفيّته: "نحن معاً في القضية" التي كانت قد رُفعت لتوّها ضد إبستين. وهذا يعني أن أندرو كذب عندما قال لبرنامج "نيوزنايت" المذكور إنه قطع كل علاقاته مع إبستين قبل شهرين من فبراير 2011. في المقابل، تتخصّص الصحف الأميركية بإحصاء عدد أكاذيب ترامب في كل خطاب يلقيه وكل مقابلة يعطيها، فترصد 40 هنا و50 هناك و100 أكذوبة خلال ثلاثة أيام، ولا يُصرف ذلك محاكمة أو محاسبة. في بريطانيا أكذوبة دسمة واحدة تتسبب بتسجيل سابقة لم تعرفها العائلة الملكية في تاريخها الحديث، أي أن يعزل ملك أو ملكة أحد الأبناء أو الأشقاء، وهذا لا يسري طبعاً على تخلّي أفراد من العائلة عن ألقابهم وامتيازاتهم لأسباب شخصية أو سياسية (الأمير هاري والأميرة ديانا والملك إدوارد الثامن والدوق أرنست أوغسطس). أما في أميركا كما لم نعرفها من قبل، فيحقق الكاذب الأكبر نجاحات تلد أخرى كلما زاد عدد أكاذيبه.