أميركا إلى احتواء الصين

أميركا إلى احتواء الصين

06 ابريل 2021
+ الخط -

ليس النظام العالمي القائم على أحادية القطبية الأميركية في طريقه إلى التغيّر قريباً. لا الخلافات التجارية والسياسية بين الولايات المتحدة والصين ستفعل ذلك، ولا الاتفاق "الاستراتيجي" الصيني الإيراني الذي أُبرم أخيرا سيؤدي إلى ذلك.
ثمّة اعتقاد رائج أن من شأن تحالف بين روسيا والصين وإيران وكوريا الشمالية أن يمثل محوراً دولياً جديداً يعيد صياغة النظام العالمي القائم منذ انتهاء الحرب الباردة، من بوابة التأثير على النفوذ المالي للولايات المتحدة وعملتها الدولار. لكن الولايات المتحدة في عهد الرئيس جو بايدن يمكن أن تكون من الذكاء والحنكة إلى درجةٍ تجتذب الصين إليها، بدل أن تدفعها إلى إثارة القلاقل في العالم.
ليست الصين معنية بهز عرش أميركا، ولا بإحداث تغييراتٍ في موازين القوى في العالم. كل ما تريده أن تدفع عن نفسها شر التطرّف الأميركي، وسياساته العنجهية كالتي عرفها العالم في عهد دونالد ترامب، كي تضمن مواصلة نموها الاقتصادي وازدهارها الداخلي. وسترمي الصين كل أوراق اللعب الخارجية، خصوصاً في مناطق العالم الحساسة كالشرق الأوسط ووسط آسيا، إذا سعت الولايات المتحدة إلى التقرّب منها والتحالف معها.

حكومة بكين تترقب الخطوات التصعيدية الأميركية المحتملة في الأشهر الثلاثة المقبلة التي ستشهد نهايتها الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني

ثمة مخاوف حقيقية لدى الصين من نيات الولايات المتحدة في الشهور القليلة المقبلة. صحيح أن الولايات المتحدة لم تفعل بعد ما من شأنه أن يثير الذعر لدى الصين، لكن حكومة بكين تترقب الخطوات التصعيدية الأميركية المحتملة في الأشهر الثلاثة المقبلة التي ستشهد نهايتها الذكرى المئوية لتأسيس الحزب الشيوعي الصيني.
على سبيل المثال، تترقب الصين كيف ستستعمل إدارة بايدن ضدها ورقة قضية قومية الإيغور الصينية المسلمة. ويبدو أن لدى الصينيين ما يشبه اليقين بأن مشاركة قومية الإيغور في الصراع في سورية، ضمن تنظيمات دينية الطابع (تنظيم الدولة الإسلامية تحديداً)، كان بمثابة تمرين لإعداد أفراد من هذه القومية، ومتعاطفين معهم، لتنفيذ هجمات "جهادية" تضرب الصين من حدودها الشمالية الغربية، بحجّة "تحرير" قومية الإيغور التي تتعرّض لـ"الاضطهاد" الديني والعرقي من حكومة بكين الشيوعية، وذلك بغرض إشغال الصين بحرب عصاباتٍ تستعيد ذكريات الجهاد ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان، باعتبارها أسلوب عمل أميركي أصيل!

تخشى الصين أن تنظّم الولايات المتحدة تحالفاً دولياً "جهادياً" ضدها، بحجة إنقاذ قومية الإيغور، تشارك فيه دول عربية ومسلمة

ما يعزّز هذا الاعتقاد أن قومية الإيغور موجودة في الصين منذ سبعة عقود، وأن الحركات الجهادية السلفية حاضرة في العالم منذ أربعة عقود، كما أن الحركة الانفصالية الإيغورية موجودة طوال الفترة نفسها، فلماذا تذكّرت الصين اتخاذ إجراءات لتعزيز اندماج هذه القومية المسلمة في المجتمع الصيني الآن، بعد مشاركة الإيغور في أحداث الثورة السورية؟ ولماذا لم تطبق الإجراءات نفسها على القوميات المسلمة التسع الأخرى في الصين؟ هذا يعني أن الصين لا تشعر بالأمان تجاه هذا الملف، بعد زوال إدارة ترامب، خصوصاً أن خطاب بايدن تجاه الصين لا يقل عدائية عن خطاب سلفه، إذ يُفهم من تصريحاته وأركان إدارته أن الولايات المتحدة تسعى إلى قيادة تحالف دولي ضد الصين في المسائل التجارية، يحول دون تمدّد نفوذ بكين الاقتصادي في العالم، خصوصاً منذ إطلاق مبادرة الطريق والحزام، مع تولي الرئيس الصيني شي جينغ بيغ مقاليد السلطة قبل ثماني سنوات. وتخشى الصين كذلك أن تنظّم الولايات المتحدة تحالفاً دولياً "جهادياً" ضدها، بحجة إنقاذ قومية الإيغور، تشارك فيه دول عربية ومسلمة، على طريقة ما جرى ضد الاتحاد السوفييتي في أفغانستان.
سارعت الصين إلى إبرام اتفاق "استراتيجي" مدته 25 عاماً مع إيران التي تعاني من التلكؤ الأميركي في العودة إلى الاتفاق النووي، لعلها تقطع الطريق على الولايات المتحدة في هذا الملف الشائك والمزعج. لكن مضامين الاتفاق الصيني الإيراني فضفاضة إلى حدّ أنه يمكن للبلدين، خصوصاً الصين، أن تسحبه نحو المربع الذي يتناسب مع تطور الأحداث لاحقا. نص الاتفاق على أن تستثمر الصين 450 مليار دولار في البنى التحتية الإيرانية، مثل سكك الحديد والموانئ، ومعها إنشاء صناعات مدنيّة وعسكرية غير محدّدة، وهو أمر لا يختلف عمّا تفعله الصين في كل اتفاقياتها الاستثمارية مع الدول المشاركة في مبادرة الطريق والحزام، ومعناه أن أولويتها مواصلة فتح الطرق والأسواق العالمية لنقل بضائعها إلى المستهلكين. وستحصل من إيران لقاء هذه الاستثمارات الضخمة المفيدة للطرفين، خصوصاً في ظل استمرار العقوبات الأميركية على إيران، على حصة الأسد من النفط الإيراني، لتلبية احتياجاتها المتزايدة.

الولايات المتحدة تريد الصين عضواً في نظامها العالمي لا خارجاً عليه، والصين تريد نجاحاً تنموياً متواصلاً ولا تفكر بطموحات سياسية وعسكرية

لم تُقدم إدارة بايدن بعد على خطوات عملية تتناسب وحجم المخاوف الصينية. ما يزال الأمر كله في خانة الكلام، ولعل البلدين يدركان أن التفاهم بينهما سيكون في مصلحتهما أكثر مما سيكون عليه حال الصدام، لأنه الطريق الوحيدة التي تحفظ للولايات المتحدة تسيد المشهد العالمي سياسياً وعسكرياً بأدوات النظام العالمي القائمة، وتضمن للصين التقدّم الاقتصادي والوصول إلى الأسواق العالمية. وفي الحقيقة، كلتا القوتين الكبيرتين لا تريدان سوى ذلك: الولايات المتحدة تريد الصين عضواً في نظامها العالمي لا خارجاً عليه، والصين تريد نجاحاً تنموياً متواصلاً ولا تفكر بطموحات سياسية وعسكرية تنافس الولايات المتحدة في العالم.
وهذا يعني أن الولايات المتحدة سترجّح فكرة احتواء الصين والتفاهم معها، وستجد من الصين تجاوباً ورضا، لأنها لا تريد من أميركا سوى ذلك. الصين ليست الاتحاد السوفييتي السابق، وليست حتى روسيا الحالية. الصبر والحلم والروية سيدة الموقف في سياسات الصين الاستراتيجية، والبراغماتية طريقها الوحيدة، أما الولايات المتحدة فلا تعوزها الحنكة والدهاء لتدرك ذلك وتستثمره.

1E93C99F-3D5E-4031-9B95-1251480454A7
سامر خير أحمد

كاتب أردني من مواليد 1974. صدرت له سبعة كتب، أبرزها: العرب ومستقبل الصين (بالعربية والصينية)، العلمانية المؤمنة، الماضوية: الخلل الحضاري في علاقة المسلمين بالإسلام، الحركة الطلابية الأردنية. رئيس مجموعة العمل الثقافي للمدن العربية.