ألمانيا "جديدة" بمسحةٍ بيئيةٍ واشتراكية

ألمانيا "جديدة" بمسحةٍ بيئيةٍ واشتراكية

11 ديسمبر 2021

وزراء الحكومة الألمانية الجديدة برئاسة شولتز بعد أول اجتماع في برلين (8/12/2021/Getty)

+ الخط -

اقترن خروج المستشارة الألمانية، أنجيلا ميركل، من المسرح السياسي لبلادها بمشاعر امتزج فيها ما هو سياسي بما هو عاطفي. وحصيلة ذلك تبدّت في القلق لما بعد هذه السيدة التي وصفها بعضهم، محقّين، بأنها أيقونة سياسية. بيد أن من المهم الالتفات إلى أن الألمان أقل عاطفيةً من غيرهم، ولا يختزلون المكانة السياسية بشخص، ودليل ذلك أنه، على الرغم من شعبيتها، فإن حزبها الديمقراطي المسيحي قد أفشلته أصوات الناخبين الألمان في سبتمبر/ أيلول الماضي، وإن لم تُخرجه من الحياة السياسية والعامة. والأنظار، منذ الأربعاء الماضي 8 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، بدأت تتجه، وسوف تظلّ تتركّز في السنوات اللاحقة على المستشار الجديد، أولاف شولتز، ممثل الحزب الاشتراكي الديمقراطي. مع تساؤلٍ يثار في مثل هذه المناسبة عمّا إذا كان الصاعد الجديد سوف ينوء بالإرث الإيجابي للمستشارة المتقاعدة. والإجابة التقديرية بالإيجاب، بما يتعلق بفترة قصيرة قد تمتد أشهرا فقط لا سنوات، ذلك أن شولتز ليس جديدا على الحياة السياسية في أكبر دولة أوروبية، فقد عمل وزيراً للمالية مع ميركل منذ العام 2018، ثم غدا نائبا لها على الرغم من التباعد الحزبي بينهما. وبهذا، فإن قربه الوظيفي من ميركل يجعله يبدو في الأذهان، وفي ذاكرة الميديا، امتداداً لها بصورة من الصور. وبينما بدت ميركل أكثر تقدّما من حزبها الديمقراطي المسيحي بمعايير الانفتاح، فإن المستشار شولتز يأتي مترافقا مع حزبين نالا حظوةً لدى الناخبين، حزب الليبراليين (الديمقراطي الحر) وحزب الخضر. وقد شكّل هذا الائتلاف الحكومي ما بات يعرف بائتلاف إشارة المرور، وذلك نظرا إلى ألوان الأحزاب الثلاثة: (الأحمر) الاشتراكيون الديمقراطيون الذين يناصرون المجتمع العادل، و(الأصفر) الديمقراطيون الأحرار الذين يدافعون عن التجارة والصناعة، وحزب الخضر الذي يدافع عن البيئة وحقوق الإنسان. وهو ائتلاف جديد من نوعه في بلاد الراين، يصنف بالمقاييس الأوروبية ممثلا لتيارات الوسط، وذا طابع تقدّمي اجتماعيا وسياسيا، مقارنة بحكومة ميركل التي كانت أقرب إلى اليمين العصري. وقد عمد شولتز لتعويض الرمزية القيادية النسائية لميركل بإسناد الحقائب الوزارية السيادية الأهم، الدفاع والخارجية والداخلية، لثلاث وزيرات، إحداهن زعيمة "الخضر" آنالينا بيربوك لوزارة الخارجية، أما الدفاع والداخلية فقد أسندت حقيبتاهما لاشتراكيتين ديمقراطيتين، على التوالي كريستين لامبريشت ونانسي فيسر، إضافة إلى وزيراتٍ أخريات في الحكومة. علاوة على أن وزراء حكومته ينتمون إلى جيل زمني أصغر من سن المستشار شولتز نفسه (63 عاما)، بما يجعلها حكومة عصرية ذات طابع شبابي، علما أن 59% من الناخبين ممن هم دون سن الخامسة والعشرين منحوا أصواتهم لأحزب الائتلاف الجديد.

من المنتظر أن تعرف السياسة الخارجية الألمانية موقفا أكثر دعماً لأوكرانيا التي تتعرّض لضغوط الحشد العسكري الروسي على حدودها الشرقية

وسوف تشكل هذه الحكومة سدّا في وجه اليمين الشعبوي (حزب البديل من أجل ألمانيا) الذي تراجع في الانتخابات أخيرا بنسبة 2,3% من المقاعد، وذلك مع التوجه إلى رفع الحد للأجور إلى 12 يورو في الساعة، وتحقيق الاستقرار في إيجارات السكن، والسعي إلى تقليص سن الاقتراع إلى 16 عاما. وإذ يوصف شولتز وفريقه المؤتلف بأنه من أشدّ المتحمسين للاتحاد الأوروبي و"سيادة أوروبا"، فمن المنتظر أن تتخذ الحكومة الجديدة موقفا حازما على صعيد الدعم المالي لدول في الاتحاد، للتعافي الاقتصادي من آثار جائحة كورونا، وربط ذلك باحترام سيادة القانون، في إشارة ضمنية إلى بلدين على الأقل، بولندا وهنغاريا، وهما بلدان تُلهم قياداتهما الحاكمة اليمين الشعبوي في ألمانيا وسواها. 
واتساقا مع النزعة الأوروبية (تقضي بحق سائر دول أوروبا بالانضواء في الاتحاد القارّي) من المنتظر أن تعرف السياسة الخارجية الألمانية مع زعيمة حزب الخضر، الوزيرة بيربوك، موقفا أكثر دعماً لأوكرانيا التي تتعرّض لضغوط الحشد العسكري الروسي على حدودها الشرقية، فيما تبقى مسألة خط الغاز الروسي "نورد ستريم 2" المتّجه إلى أوروبا عبر ألمانيا، مصلحة ألمانية وأوروبية كما هي مصلحة روسية أيضا.. ويُذكر هنا أنه سبق للوزيرة الجديدة أن أعلنت معارضتها وجود هذا الخط ولأسباب بيئية، وهو يتفادى المرور عبر أوكرانيا، بينما يؤيده المستشار شولتز. ولا شك أن صعود الائتلاف الحاكم الجديد في برلين لن ينال رضى واسعا في موسكو، وبعد نحو عام من صعود الديمقراطيين في واشنطن بقيادة جو بايدن إلى البيت الأبيض. فيما كانت السيدة ميركل تؤدّي، أحيانا، دوراً أقرب إلى الوسيط بين موسكو وواشنطن، وبين موسكو وبروكسل (مقر الاتحاد الأوروبي)، كما سبق للوزيرة بيربوك أن أعلنت "تفهمها" مقاطعة واشنطن الألعاب الأولمبية الشتوية في بكين فبراير/ شباط المقبل، كما دعت، في حملاتها الانتخابية، إلى مُقاربة ألمانية أخرى تجاه الأنظمة الاستبدادية، واعتبرت ذلك مسألة أساسية لبلادها، ما ينبئ باستقطاب متزايد على المسرح الدولي، مع تحقيق انسجام أكبر مع إدارة بايدن، واشتداد رياح حربٍ باردةٍ متجدّدة يتفادى السياسيون الحاكمون إطلاق هذا الاسم عليها مخافة إثارة شياطين الماضي وأشباحه.

سوف يستأنف المستشار شولتز السياسة الإيجابية تجاه اللاجئين، ويسعى إلى تحسين ظروف إقامتهم وحل مشكلاتهم العالقة

عدا ذلك، سوف يستأنف المستشار شولتز السياسة الإيجابية تجاه اللاجئين، ويسعى إلى تحسين ظروف إقامتهم وحل مشكلاتهم العالقة مثل لم شمل العائلات، وقد قال ذلك بصراحة. وفي ذلك رسالة بالغة الأهمية إلى الأطراف الأوروبية، كما هي رسالة إلى الداخل، ترفض ابتزاز اليمين الشعبوي الذي قد يجد في اتباع سياسةٍ أكثر صرامة في التعامل مع جائحة كورونا فرصة لتأليب الجمهور، إذ يُنتظر إيلاء اهتمام أكبر لضبط الأوضاع، يشمل بعض التقييدات. هذا جنبا إلى جنب مع عناية أكبر وأشمل بقضية تغير المناخ، والتوقف على نطاق واسع عن استخدام الفحم، والتوسّع في إنتاج السيارات الكهربائية، كي يصل عددها إلى ملايين المركبات، في غضون سنوات قلائل.
وبالنظر إلى مواقف أحزاب الائتلاف الثلاثة من قضايا الشرق الأوسط، وهذه عديدة ومتفرّقة، سوف تكون مرتبطةً بمعادلاتٍ دقيقة تجمع بين مصالح ألمانيا الواسعة الاقتصادية والأمنية، مع اعتماد مفاهيم لحقوق الإنسان والقانون الدولي أشدّ تجانسا مما هي عليه مثلا لدى فرنسا في عهد إيمانويل ماكرون، وهو ما قد ينعكس على الانتخابات الرئاسية الفرنسية في إبريل/ نيسان المقبل، وكذلك على موجة الانجراف إلى أقصى اليمين في العالم، بما في ذلك في منطقتنا، بعد أن ارتفعت إشارة قف أمام هذا اليمين في واشنطن وبرلين خلال عام.