ألف حربٍ... بعد الحرب

05 فبراير 2025

فلسطينيون عائدون من جنوب قطاع غزة إلى شماله يعبرون شارع الرشيد (31/1/2025 الأناضول)

+ الخط -

كنتُ دائماً أسمع أمي رحمها الله تردّد: "راحت السكرة وجاءت الفكرة"، وهي تقولها حين ترى تجربة زواج غير متكافئ مثلاً، وأن الطرفين سوف يندمان بعد أن يفيقا من نشوة وهم الحب. وبتفكيرها العملي هذا، أصبحت أنتظر دائماً نتيجة الاندفاع في أمور كثيرة، ومنها، بل أهمها ما حدث للنازحين العائدين إلى غزّة وشمالها، وبعد أن اجتازوا بمشقّة الحاجز الوهمي حدود المنطقة الإنسانية الآمنة، كما كان يُطلق عليها الاحتلال، والتي لم تكن كذلك أبداً، وإلا لما عادت العائلات ناقصة العدد، وقد اجتازته مكتملة حين تلقّت أوامر الإخلاء والنزوح في الجمعة الأولى من المقتلة الطاحنة التي ستظلّ أحداثُها تُروى على مرّ التاريخ.

مثلهم تماماً حين كنتُ أجتاز معبر رفح، وبعد محاولاتٍ مضنيةٍ للنجاة الفردية مع أفراد عائلتي الصغيرة، وحين كنتُ أضع قدمي الأولى على الحدود المصرية، بدأت السكرة تتلاشى من رأسي الذي لم يكن يمتلئ إلا بصوت الانفجارات المحيطة به ورائحة الموت المتربّصة، حتى تخيّلت أنني لا أتنفس إلا رائحة الدم والأشلاء، وبدأت أفكّر من أين وكيف سأبدأ في البلد الغريب، وقد خرجت فعلياً من بلدي الذي عشت فيه نصف قرن وعامين من عمري، خاوية الوفاض، وحيث كان لي فيه كل شيء ابتداء من البيت الصغير الدافئ، وها أنا أجتاز حدود البلاد بلا أي فكرةٍ، حتى أو مخطّط عن البداية، وعن ألف حرب جديدة تنتظرني وقد نجوت بجسدي فقط من حرب الإبادة الجماعية التي ما زالت تطارد أهل غزّة كبيرهم وصغيرهم بلا استثناء خلفي.

تخيّلت أنني عدتُ إلى ركام البيت في مدينة غزّة، وأنني وقفتُ على أطلاله فسألت نفسي السؤال نفسه الذي سأله أكثر من مليون نازح، قد عادوا مشياً على أقدامهم غالباً وقلوبهم تسبقهم، ولكن الحنين والشوق تبخّرا من الرؤوس، وجاء السؤال المهم، وطرأت الفكرة القاتلة: من أين سيبدأون؟ وكل ما حولهم ينبئهم أن لا حياة هنا على الإطلاق، بل أنهم يروْن أمامهم ركام (وأنقاض) البيوت التي علق تحتها أحبّتهم الذين تحوّلوا إلى هياكل عظمية، وأن عليهم مهمة شاقّة، وهي انتشال ما تبقّى من هذه العظام وتكريمها بدفنها، لكي يأتوا ذات يوم لزيارة قبر لم توضع فيه إلا عظمة واحدة، أو حتى فردة حذاء لم يجر التعرّف على بقايا صاحبها المتحلّلة إلا منها.

أدركت في الغربة أنني أواجه حرباً جديدة، ويكفي أنني فقدتُ بيتي الصغير الذي كنت أراه جنّة، وحين كانت صاحبة الشقّة المؤجّرة تبتسم ابتسامة لزجة، وهي تملي شروطها عليّ، حول ضرورة الحفاظ على أثاث الشقّة التي سكنها كثيرون قبلي، وكان مظهره ورائحته يوحيان لي بذلك، وحيث أجفلت سريعاً، ورفعت ذراعاً أرخيتُها فوق قائم كرسي، وأنا أتخيّل هؤلاء الآخرين الذين استلقوا على الأريكة، وناموا فوق السرير، ووقفوا في الشرفة، كنت أتخيّل بيتي البعيد، والذي كان بيني وبينه ألفة لا توصف، وقد ابتعت أثاثه قطعة قطعة، ولكل قطعة حكاية، وكنت أحافظ عليه، بل أشفق أن يأتي ضيف فيهين الأريكة أو يسيء إلى أرضية الشرفة الضيقة بعقب سيجارة يلقيه فوقها، أما اليوم فقد خسرت كل شيء، وكل ما كان يربطني بالبيت الصغير، وأصبح لزاماً علي أن أحافظ على أشياء الآخرين.

يشبه إحساسي ذلك كثيراً إحساس أهلي الذين عادوا إلى مدينة غزّة وشمالها، والذين أصبحوا لا يملكون شيئاً، وكل ما عليهم أن يحاولوا النبش عن بقايا حياة، وبعد أن كانوا يملكون البيوت والأفنية والحدائق والمزارع الخضراء، أصبح لديهم مهمّة مستحيلة، وهي أن يزيلوا الركام برفق، حتى لا يهينوا عظاماً عالقة لأحبّتهم، وأن يجدوا موطئاً فارغاً لينصبوا خيمة، ولسان حالهم يقول إن خيمة عن خيمة لا تصنع فرقاً، فهناك وإلى جنوب الوادي كانوا يعيشون في خيمة حياةٍ قاسيةٍ بلا أدنى مقوّمات حياة، واليوم يعودون، وبعد أن ذهبت السكرة المحمّلة بلهفة الأمل، فلا يروْن إلا السّراب.

سما حسن
سما حسن
كاتبة وصحفية فلسطينية مقيمة في غزة، أصدرت ثلاث مجموعات قصصية، ترجمت قصص لها إلى عدة لغات.