أكرم صاغية، أيُها البعيد القريب

أكرم صاغية، أيُها البعيد القريب

31 اغسطس 2021
+ الخط -

كُنّا نتواصلُ عن بُعد، من دون أن يكون في البُعد هذا مسافة، أو نأي، زيادةٌ أو نقصان. كانت لنا لقاءاتٌ متباعدة، إنمّا كأنّها متواصلة، ملأى ولا تنقطع. لم أكن أصرّ كثيرًا، كي لا أزعجه، إذ كنتُ أعرف أن هذا الرجل الحسّاس لا يُطيق المجاملات ولا يقوى عليها، وأن مجرّد اتصاله بي يعني أنه حريصٌ على صداقتي، فكنت أترك له أن يحدّد موعدًا، بحسب مزاجه وأوقاته، وكان يفعل. يستجيب لدعوةٍ إلى العشاء، أو نلتقي على غداءٍ تحت شمس باريس البخيلة، أو حول فنجان قهوة. وأجده على عادته، أنيقًا، مشاكسًا، مطّلعًا وعارفًا ومناقشًا ومصوّبًا، ومُحبًّا ومستفهمًا دومًا عن أحوالي ونشاطي وكتابتي .. كان لي مع أكرم صاغية الذي وافته المنية أخيرًا، بعد طول صراع مع المرض، علاقة من نوع آخر لا تشبه صداقاتي المعدودة الأخرى، ولا تقلّ عنها قوةً وصدقًا. كان له دائمًا موقع خاص، لأنّ خصوصيتّه كانت تفرض ذاتها: معرفة وثقافة وأناقة في التعامل، ونبلٌ وصدقٌ وانسحابٌ وتواضع.
حتى في اتصالنا الأخير قبيل وفاته بأيام، بقي أكرم هازئًا "ممازحًا" يُشهر مزاحَه جِلدةً ثانية تُخفي حساسيته وأشجانه، وعنوانًا لتواضعه الكبير برغم ثقافته الواسعة، وما شغله من مناصب مهمّة، تخلّى مبكرًا عمّا يصحبها من نفوذ. عمل أكرم فترة في منظّمة العفو الدوليّة في لندن، ثمّ كان أكثر من عشرين عامًا مسؤولًا عن قسم الشرق الأوسط في مجلّة "كورييه إنترناسيونال" الفرنسية الشهيرة، تحت اسم مارك صاغية، فكان سبّاقاً في متابعته الإعلام العربي، ونقل تجاربه المُحدثة وأهمّ ما يُكتب (عبر ترجمته)، إلى العالم. وقد كان أمينًا في تأدية مهمّته تلك، لم ينسَق لاعتباراتٍ أو صداقاتٍ أو نوازع شخصية، بقدر ما حرص على دعم الإعلام الطليعيّ والمستقلّ الذي ينقل واقعًا صادقًا عن أحوال الدول العربية والشرق أوسطية.
في صحيفة "لوريان لوجور" التي تصدر بالفرنسية في بيروت (عدد 27 أغسطس/ آب 2021)، كتبت الأديبة اللبنانية المعروفة دومينيك إدّة، في وداع أكرم تقول، تحت عنوان "كبيرٌ كان يعتبر نفسه لا أحد": "كرمه وذكاؤه ضربا رقمًا قياسيًا في الكتمان والدماثة، إلى حدٍّ فاق المطلوب بكثير. كان يعمل على إغفال ما يُعطي، يمتنع عمّا يستطيع الحصول عليه، ويدّعي الهزءَ ليخفي جراحَه. لم يكن لشخصه الأولوية، وإنما يأتي دائمًا بَعد. بَعد من؟ ماذا؟ لستُ أدري. كان البورتريه المضادّ للوصوليّ، للمستميت للفت الانتباه، وللإنسان المكتفي بذاته. كان من الممكن أن يكون كاتبًا معروفًا، لكنّه اختار الظلّ".
أستعين بكلام إدّة لأني لستُ أرى أدقّ منه في وصف الصديق أكرم صاغية. لقد كان عملةً نادرةً بالفعل في زمنٍ يفتقد إلى سخاء القلب والروح، إلى الأمانة الفكرية والمهنية، إلى الرغبة في حُسن الأداء لا في الظهور، وإلى حبّ أداء الخدمة دفاعًا عن رسالة الإعلام، الثقافة، القضايا العادلة والمحقّة، ضدّ الانحياز والتطرف واللاموضوعية. كان أكرم بعيدًا كلّ البعد عن الانتماءات الضيَقة وصغائر الأمور. كان نبيلًا بكلّ ما تحمله الكلمة من معانٍ، فكثر محبّوه وقلّ أعداؤه، لكنّ الحياة لم تنصفه، إذ رافقه المرضُ طويلًا حتى تمكّن منه. لا، لم يتمكّن منه. حتى على فراش الموت، بقي هو نفسه، حتى إني صدّقتُ وعدَه باستدعائي إلى زيارته إلى بيته ورؤيته عمّا قريب.
لم يُسعفنا الوقتُ، يا صديقي. سبقني الموتُ إليك، كما سبقني من قبلُ إلى أحبّاء غادروا في غيابي بهدوء. يولا، بشير، والآن أنت. الصنف الأطيب من الناس، الأنبل والأجمل. باريس فرغت بغيابكَ، يا أكرم، ليس من يملأ مكانكَ، وبيروت الميتة ماثلةٌ في الخلفيّة. كلّ هذا الموات مالحٌ لا يُحتمل، يا صديقي، لكنّ ابتسامتك وشجاعتك ونزاهتك منارة تحلّي ما تبقّى من مرارة الطريق.

نجوى بركات
نجوى بركات
كاتبة وروائية لبنانية ومؤسسة محترف "كيف تكتب رواية"