أقاليم تُربك عالمًا غير مستعد

أقاليم تُربك عالمًا غير مستعد

28 مايو 2022
+ الخط -

لم تكن صياغة العالم في مرحلة ما بعد الحرب الباردة (1947 - 1991)، بهذه الحدّة التي هي عليها الآن. حقيقة أن مفاهيم ما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي ويوغوسلافيا وتفكّكهما إلى نحو 22 دولة معاً لم تعد وصفةً ناجعةً في الصراعات الدولية في العصر الحالي. في إقليم ناغورنو كاراباخ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا، لم يجر الاتفاق على ما إذا كان سيشكل دولة خاصة به، ولا تقرير مصيره، فظلّ إقليماً. هونغ كونغ وماكاو ليستا سوى إقليمين صينيين، لا دولتين ذاتي سيادة كاملة. تايوان بنفسها لم تحظَ باعترافٍ شاملٍ في العالم في سياق "دولة مستقلة". وإذا استمرّت الأمور على هذا المنوال، فستكون إقليماً صينياً في يوم من الأيام. في إقليم كشمير، الذي يتنازعه الهند وباكستان، لا فرصة للحديث عن حقّ الكشميريين في تقرير مصيرهم.

في دونباس، حيث إقليما لوغانسك ودونيتسك الأوكرانيان، لا يمكن اعتبار "الاستقلال من جانب واحد"، مثلما أعلنا في فبراير/ شباط الماضي، نموذجاً كافياً لقيام دولتين مستقلتين. ينطبق الأمر نفسه على إقليمي أبخازيا وأوسيتيا الجنوبية الجورجيين. أما شبه جزيرة القرم الأوكرانية، التي باتت جزءاً من روسيا بعد ضمّها بالقوة في عام 2014، فلا مجال لها لتكوين دولةً مستقلة، بل ستبقى إقليماً، روسياً كان أم أوكرانياً.

في المقابل، تطوّرت لغة "الأقاليم" في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعد تحوّل إقليم كردستان العراقي إلى كيان بحكم ذاتي ضمن دولة العراق. في سورية مثلاً، أفضت الإعفاءات الأميركية بما يختصّ بـ"قانون قيصر" في شرق الفرات، إلى بروز نواة اقتصادية - تجارية لتطوير منطقة سورية بمعزلٍ عن الحكم المركزي في دمشق. أما في اليمن، فإن مشروع الأقاليم الستة يكاد لا يغيب عن أي بحثٍ جدّي لحل الأزمة اليمنية، بينما تطوّرت أحداث ليبيا، مع تنامي الحديث في الفترة الأخيرة، وبرعاية فرنسية، عن حلّ يتضمن تقسيم البلاد إلى ثلاثة أقاليم. في لبنان، حُكي، من دون تأكيدات، عن نوع من فيدرالية بين منطقتين على أساسٍ سياسيٍّ لا طائفي، أي بين معسكري حزب الله وخصومه، برعاية أميركية.

في كل ما سبق، لا مجال لقيام دويلاتٍ مستقلةٍ جديدة وفق معايير المفهوم السياسي في العالم حالياً، بل صيغة متطوّرة، ليس بالضرورة أن تكون إيجابية، من اللامركزية لم يجر البتّ بشكلها بعد في كل المناطق المعنية. مع العلم أنه في حال عدم توافق الإقليم الساعي إلى تكريس ذاتيته بشأن مستقبله مع المركز، فسيؤدي ذلك إلى ترسيخ مفاهيم الصدام فترة طويلة، وتستولد نزاعات مستقبلية غير معروفة نتائجها، خصوصاً أن مختلف مشاريع "الإدارة الذاتية" تُناقش أو تحصل بمعزل عن اتفاق سياسي داخلي. كما أنه في حال تفكّك الدولة، فإن عدم اتفاق الأقاليم المشكّلة لها على مسار ما، سيؤجّج حروباً مستقبلية فيما بينها.

ومن شأن إصرار بعضهم على عدم قيام دويلات جديدة في العالم، سواء لحسابات مصلحية آنية أو لأن مشاريع تأسيس دول جديدة بحدّ ذاتها أكبر من قدرة أي طرفٍ على تحمّلها أو دعمها، إلا أنها، في بعض زواياها، تؤثر على مشروع قيام دولة فلسطينية فعلية، ولو ضمن إطار "حل الدولتين"، ويسمح برفع منسوب التعنّت الإسرائيلي تجاه وجود مثل هذه الدولة. صحيحٌ أن وضع ملفات المناطق الساخنة في مجموعةٍ واحدةٍ يُربك الحسابات الجيوبوليتيكية، إلا أنها تلغي فعلياً منطق "تقرير المصير"، الذي ساد طوال القرن الماضي بنسبٍ متفاوتة، فحروب الاستقلال في دول أفريقية وآسيوية، وضمنها عربية، لم يحصل الدعم الخارجي لها بدافع "اليقظة الإنسانية" بقدر ما أن محطات الاستقلال حصلت في لحظة تنازع على مستوى قيادة "العالم الحرّ" بين الأوروبيين والأميركيين. الأرجح أن العالم لم يكن مستعدّاً لمفهوم جديد من الكيانات الباحثة عن ذواتها، وهو ما سيُفضي إلى إرساء أمر واقع مغاير للنصوص القانونية.

6F7A33BD-9207-4660-8AF7-0EF5E3A4CD6C
بيار عقيقي
صحافي لبناني، عمل في صحف ومجلات ودوريات ومواقع لبنانية وعربية عدّة. من فريق عمل قسم السياسة في الصحيفة الورقية لـ"العربي الجديد".