أعياد غزّة الغائبة
فلسطينية تزور قبور أقربائها في عيد الأضحى في مخيم النصيرات جنوب غزّة (6/6/2025 فرانس برس)
صباح يوم العيد الفائت، كنتُ أتساءل: كيف مرّت أربعة أعياد على غزّة من دون أن تتوقّف في سمائها وأرضها؟ كيف هبّت ريحٌ بنسمات باردة في مكانٍ ما على وجه السرعة، حتى إنك تشعر بها لوهلةٍ ثم تختفي، وتتركك متلهّفاً ومشتاقاً لذلك الشعور الذي لا يُوصَف؟
أما بعد شروق الشمس، وحيث تعالت أصوات الاحتفال بالعيد من المساجد المحيطة بي في القاهرة، فكنتُ أستقبل مكالمات من أهلي في غزّة، حيث قرّروا أن يُقدّموا لي التهنئة الصوتيّة، بعد أن خطّطوا وكافحوا للحصول على شبكة إنترنت صالحة للاتصال، وقد كلّفهم ذلك جهداً ومالاً، كي لا يقطعوا عادةً طالما جَرَوا عليها، حيث يُقدّم الأشقاء التهاني بالعيد لأخواتهم، ويطرقون أبواب بيوتهنّ في وقتٍ مبكرٍ من صباح أول أيام العيد.
استغربتُ كيف امتلكوا القوة، وواتتهم الشجاعة، رغم كلّ ما يمرّون به من ظروفٍ قاهرة، ليهاتفوني، ويُصرّ صغارهم على إرسال التهاني والأمنيات لي، بصفتي العمّة التي تكبُر الأب، والتي تحتلّ مكانة الجدة احتراماً وتقديراً عند غيابها. ولذلك، لم تتوقّف تلك العادة الجميلة في غزّة، المتمسّكة بأنبل العادات والتقاليد، والتي لا تكفّ عن تأصيل العلاقات الأسرية وتوثيقها، فحين تُخاطب زوجة الابن أمّ زوجها بكنية "يا عمّتي"، تفعل الأمر نفسه مع أخت الزوج الكبرى، ولا تُقلّل من احترامها أو تقديرها، فكيف فعلوا ذلك، وهم الجوعى المنهكون، القابعون في ظلال خيامٍ بالية، وقد طالت بهم أيّام المطحنة، فنهشت أرواحهم، ونالت كثيراً من إنسانيّتهم؟
غزة، المُبهرة، أو المعجزة، لا تتوقّف عن إبهارك، حتى حين تغيب أعيادها. فعلى مدار ما يقرب من عامين، مرّت بها أربعة مواسم كانت تحمل كلّ معالم الحياة، وكان الناس البسطاء هناك يستعدّون لها قبل حلولها بأيامٍ وأيام، ويستمرّون في الاحتفال حتى بعد انقضاء الأيام الرسميّة للعيد. يعود الصغار إلى مدارسهم، ويواصل الموظفون دوامهم، ولكن بقايا الطقوس تظلّ محلّقةً في البيوت، حتى إن طبقاً من كعك العيد التراثيّ الشهيّ قد يُوضع أمامك بعد شهرٍ أو أكثر من حلوله، وتكتشف أنّ روح العيد الفائت لا تزال عالقةً بزينةٍ على جدار أهل البيت، أو حتى على سور البيت من الخارج، حيث يُخبرك السور أنه شهد فرحةً وضحكةً عَلِقت به، ولم تنزلق مع مرور الأيّام.
تعود لتتساءل: كيف مرّ العيد بهم ولم يعرفهم؟ أو كيف مرّ العيد بهم ولم يتوقّف؟ كيف واتته الجرأة ليغيب عنهم، وهم أكثر من كانوا يحتفون به؟ وقد كنتَ تستنتج فعلاً أنّ البسطاء والفقراء أكثر الفئات حبّاً للأعياد وإحياءً لها، وأنّهم الأكثر التفاتاً للمناسبات، وتمسّكاً بكلّ طقوسها، وكأنّهم يسترقون من الأيام بعض البهجة، على قتامة ما تبقّى من عامهم، حيث الرزق يمرّ من ثقبٍ ضيّق، وحيث سبل العيش واهية، ولكنّها تكون جميلة، لأنهم، في النهاية، يجتمعون مع العائلة، وهي أقدس وأثمن ما يمتلكون: فهناك البيت الدافئ، والباب، والوَصد، والسقف الحاني، والوجوه المحبّبة. حتى إذا ما جاءت المقتلة وغاب ذلك كله، ووجدوا أنفسهم فجأةً في العراء، لا يملكون شيئاً سوى الذكريات والدموع، فإنهم لم يتوانوا عن التمسّك بأبسط الطقوس التي تقول إنّ العيد قد يمرّ، لكنّه لا يتوقّف.
أوجعتني جدّةٌ من غزّة، نثرت ملابس العيد الجديدة فوق قبور أحفادها. فكيف حرصت العائلة، رغم فقرها وجوعها، على تدبير ملابس عيدٍ لأطفالٍ فقدوا طفولتهم في الخيام، حيث لا تتوفر أدنى مقوّمات الحياة من ماءٍ نظيف، أو طعامٍ مفيد، أو فراشٍ مريح ودافئ؟
ولكن الكبار حرصوا على أن يتمسّكوا بالأمل، فابتاعوا ملابس العيد للصغار، لكن الحرب لم تتوقّف عن خذلانهم، فقد سرقت الصغار الذين لم يلبسوا الملابس الجديدة، وتركهم العيدُ الغائب، للمرّة الرابعة، يبكون فوق شواهد القبور، أمام صمتِ العالم المحتفلِ حتى الثمالة، بعيدٍ متآمر، يمرُّ بغزة بلا توقّف أو التفات.