أطفالنا في المهجر بين اللحظة والمستقبل

أطفالنا في المهجر بين اللحظة والمستقبل

15 فبراير 2022

(غابرييل أوروثكو)

+ الخط -

القضية التي برزت على السطح أخيراً، المتمثلة في ظاهرة سحب أطفال العرب المسلمين في السويد، هي حالة تمتد إلى دول غربية أخرى، وإنْ لم تصل إلى مستواها، بسبب التوجه الغربي المتزايد تجاه الأسر المهاجرة العربية، والمسلمة بالذات. والقضية هنا ليست في مفاهيم خاصة بالمسلمين، بل بالقيم الشرقية، ولا نقول العادات أو الثقافات، لكنّها قيم تؤمن بأفكار تضامنية وتراحمية بين الأسرة وأركانها، تُخالف ثقافات تخلّق جديدة في التاريخ المعاصر، تؤمن بفصل الضمير الاجتماعي، وترفض الروح التكافلية بالحبّ والتضامن بين أعضاء الأسرة ومرجعيتها السلوكية الأخلاقية، وتعتمد في المقابل الفردية العدمية المطلقة. وهي في قضية السويد مثّلت تراكمية سنوات، كأحد أبرز صور التطرّف، في القهر السياسي بناءً على الاختلاف الثقافي، بغض النظر عن تصنيف الحالات وحقيقة النماذج المسيئة أو المهدّدة لأطفالها، وهو ما يحتاج تفصيلاً مهماً.
وما نعنيه هنا بالفهم الدقيق أنّ هناك حالات، على سبيل المثال، تهدّد سلامة الطفل مثلاً، أو الإضرار به. لكنّ هذا القياس لا يتحقّق في حالات الأغلبية من المتضرّرين الذين تصادر أطفالهم "السوسيال" أو المنظمات الشبيهة في كندا مثلاً، والوضع الكندي أفضل، لكن القرارات التي صدرت أخيرا، وقد فصّلها الكاتب بالتوثيق في مقالات سابقة قدّمت رؤية قيمية ودستورية، تخالف هذه القوانين التي تهدد الأسرة العربية، بناء على إطار جندري حديث، فُرض على من يؤمن بالأسرة الفِطرية في العالم، ومعاقبتهم لمخالفة الهوية الجنسانية، حين تبرز القضية أمام القوانين الجديدة.

مسألة أنّ هناك تعدياً حقيقياً في بعض الحالات من الوالدين، وأزمة سلوك تربوي لديهما، أمرٌ صحيح، لكنّ ذلك لا يشمل الغالبية العظمى

وهنا يتضح لنا أمر في غاية الأهمية لا بد من تحريره، أنّ هناك سلوك تربية خاطئاً وتفاعل غضب دورياً، هو في الأصل ليس سلوكاً إسلامياً رشيداً، لكنّه أخطاء وتراث اجتماعي في البيئات الشرقية، ليست في مستوى واحد. وحتى لو كانت بالفعل حاضرةً في حياة الأسرة، فهي لا تعني نية الأبوين الإضرار بأبنائهم، أو حتى تعنيفهم، لكنّها لحظة تعبير غاضب، يحتاج الوالدان أن يضبطا مشاعرهما وسلوكهما فيها، أولاً حتى لا يتضرّر الطفل، وثانياً حتى لا يُصبّ على هذا الطفل عذاب أشد، في رحلة تأميم الدولة الغربية الأطفال، واستبدال والديهم بوالدين موظفين للمهمة أو متطوعين لها، فالخطأ الذي يرتكبه أحد الأبوين، الأصل أن يتراجعا عنه، وممكن أن يصل إليهما إنذار بهذا الصدد، ويتعاون مع موجّه مسلم أو حتى غير مسلم، للتنبيه إلى هذا الخطأ، غير المهدّد لصحة الطفل تهديداً فعلياً نافذاً أو حياة الأولاد، لكنّ ما يجري هو العكس، فيؤخذ الأطفال عنوة، ويروّعون بوجعٍ لا يُنسى في تاريخ حياتهم، ويُصدَم الوالدان حتى مرحلة المرض والوفاة، بناء على قرار مصادرة أبنائهم، وكأنّما هم قطعة أثاثٍ تُنقل إلى منزل آخر، وقد حصلت حالاتٌ من هذه الصدمات للوالدين.
ثم يقال يجب التقاضي إذا رغب الوالدان باستعادة فلذات أكبادهم، وليس هذا وحسب، ولكنّ المؤكد أنّ وصول الشكوى ودقة حقيقتها، ثم التفعيل لها قانونياً ضد الوالدين، لا يوجد لها ضابط تحقق منصف من حقيقتها أو تفاصيلها، على الأقل في حالاتٍ عديدةٍ عاشها المسلمون في هذه البلدان، فالصلاحية شبه المفتوحة لرأي الأُستاذ أو المدرسة أو الجار أو الشرطة، أو المؤسّسة الاجتماعية أو الإعلامي المختلف والرافض أصلاً قيم الشرق، تجعل فرص الإضرار بالحالات وعدم معالجتها المشكلة أشدّ شناعةً وفتكاً بالروح الإنسانية، وبضمير الفرد. ومسألة أنّ هناك تعدّياً حقيقياً في بعض الحالات من الوالدين، وأزمة سلوك تربوي لديهما، أمرٌ صحيح، لكنّ ذلك لا يشمل الغالبية العظمى. وفي الجانب الآخر، يعالج موقف الوالدين بضررٍ أكبر.

الحلّ بصناعة مجتمع كفاح مدني، وجمعيات دعم للضحايا ومدافعة قانونية للنظم والمؤسسات كما يفعل أيّ مجتمع غربي مختلف

ولذلك يُفتح السؤال الكبير مجدّداً، هل الأمر محمولٌ على أنها سياسات حماية طفولة محض، وأخطاء موظفين فيها فقط، أم هناك إشكالية أعمق تثبتها مجمل السياسات الإعلامية والممارسات السياسية في الغرب، والتي تعيش اليوم أزمة مزدوجة: الأولى، الحاجة لدفعات العمال والمهنيين لحركة الدولة، لكن هناك كراهية وجهلاً بالإسلام. والثاني، أنّ الإسلاموفوبيا ليست تياراً فقط، بل تسللت للحكومات والأحزاب والمؤسسات التشريعية، وهذا لا ينفي حضور الضمير الإيجابي للمجتمع الغربي في شقّه المتضامن، ولا تُنكر منظومة الحقوق المدنية والعدالة السياسية. لكنّه تشخيصٌ لواقع خطير في الذات الغربية السياسية، وفي استراتيجية الدولة ذاتها، في التعامل مع صعود نسب المسلمين المهاجرين إلى الغرب. وعليه، هناك تشجيع ضمني رسمي لمفهوم الدمج القهري، للمجتمعات المهاجرة وبالذات المسلمين، على الرغم من أنّ المشترك الإنساني واسعٌ بين المسلمين وغيرهم، وعليه لا بد من أرضية احتواء شرسة ضد أطفال المسلمين، مع أنّ الإحصائيات تقول بأنّ غالبية الجيل الجديد لا يستنسخ فكر والديه، وتكون مساحة الابتعاد عن الدين أكبر، لكن مجرد بقاء الجوهر المسلم للطفل، يقلق المركز الاجتماعي والسياسي الغربي.
ولا يجوز أن تُواجَه هذه السياسات بخطأ فادح، وبالذات في قضية استدعاء مرجعية تحريض، من خارج محيط مسلمي المهجر، لقيادة المعارضة ضد المجتمع أو الحكومات، مع تفهمنا المؤكد لمشاعر التضامن الإسلامي والعربي، فهذا مآلٌ كارثي يُفاقم القضية، ويُعزّز مداخل الإسلاموفوبيا المستترة والعلنية، فضلاً عن أنّ الدعوة إلى مغادرة المسلمين وترك مواطنتهم الغربية، لا توجد لها أرضية حلّ عملي مطلقاً لملايين المسلمين.
وإنّما الحلّ بصناعة مجتمع كفاح مدني، وجمعيات دعم للضحايا ومدافعة قانونية للنظم والمؤسسات كما يفعل أيّ مجتمع غربي مختلف، وتعزيز وسائط ثقافة التمسّك بالهوية القيمية، بقناعةٍ لدى أجيالنا أنفسهم، حينها يدرك هذا الفتى أنّ القضية ضد أسرته ليست تقدّماً إنسانياً، وإنّما خطأ تصور أو مشروع متطرّف نُفذ على أطفال السكان الأصليين من قبله، ذلك الوعي سيكون قاعدة مواطنة صلبة لحقوقه بوطنه الجديد، حين تصل الرسالة إلى مجتمع الغرب الإيجابي الذي لا تزال غالبيته تجهل حقيقة الإسلام.