أصدقاء... ولكن
(بهرام حاجو)
تُعدّ الصداقة من أكثر العلاقات الإنسانية عمقاً ومتانةً وتأثيراً في رحلة العمر. يُصنّف عادةً من يحظى بصداقاتٍ ثابتةٍ طويلة الأجل شخصاً محظوظاً ناجحاً متحقّقاً اجتماعياً، لقدرته على الحفاظ على علاقاتٍ صحّيةٍ توفّر إحساساً بالأمان والحبّ والاكتراث، سيّما إذا توفّر فيها شرط الندّية أخذاً وعطاءً.
غير أن بعضهم يفترض أن مهمّة الصديق المقرّب تقتصر على الاستماع للهموم والمشكلات والصعوبات، ويتوقّعون منه اتخاذ وضع التأهّب الدائم على مدار الساعة، كي يكون جاهزاً عند الطلب في كل الظروف والأحوال، يستمع ويتعاطف، ويقترح الحلول، ويبدي التضامن والتفهّم والمساندة بأشكالها كافة. يلجأون إليه في الشدائد، يقحمونه في تفاصيل مُرهِقة نفسياً، يستنفدون طاقته، ويطلبون منه العطاء بلا حدود، في تجاهلٍ متعمّدٍ لحقيقة أنه قد لا يكون متوفّراً بصفة دائمة، وأن لديه حياةً وظروفاً ومزاجاً ورغبةً في العزلة والابتعاد أحياناً، وأنه معرّضٌ للإرهاق جرّاء تكرار شكواهم وتظلّمهم من قسوة الحياة وتقلّباتها غير السارّة، وقد ينتابه السأم من وظيفة المساند الذي يُعوّل عليه في الضرّاء، في حين تتراجع أهميته لديهم في السرّاء، فيبخلون عليه بمشاركته أفراحهم وإنجازاتهم وانفراج مشاكلهم، بل يتكتّمون على الأحداث السعيدة التي تجري في حياتهم، أحياناً بدافع الخوف من الحسد من باب "داري على شمعتك تقيد"، كما يقال في الدارجة المصرية.
لعلّ تلك طبيعةٌ لصيقةٌ بالنفس البشرية الميّالة الى الجحود والنمردة والخيلاء في لحظات القوة والإنجاز، إذ يتملّك الواحد منا شعورٌ زائفٌ بالاكتفاء وبالقدرة على الاستغناء عن أصدقاء لطالما كانوا سنداً وملاذاً في لحظات ضعفنا التي ننساها بسهولة لنعيش زهواً كاذباً سرعان ما يزول عند أوّل مطبّ. وفي هذا المسلك المؤسف فهم مغلوط لجوهر علاقة الصداقة القائمة أساساً على المودّة المتبادلة والثقة والولاء والصدق، ما يُحدِث تأثيراً إيجابياً في الصحّة النفسية في العموم، ويساعد في زيادة الثقة بالنفس وتعزيز الشعور بالانتماء.
وتتميز علاقة الصداقة الحقيقية المبنية على أسس سليمة بإحداث الشعور بالراحة وبالقدرة على التصرّف على طبيعتنا بحرية من دون تحفّظات. ويعرّف علم النفس الصداقة بأنها طريق ذو اتجاهَين، تتطلّب الاحترام المتبادل والتفاهم والاستعداد للاستماع والتفهّم والمساندة، لكن يحدث في بعض الأحيان أن نصادف صديقاً يحتكر العلاقة ويجيّرها ملاذاً ومتنفّساً منفرداً، يتسنى له التعبير فيه عن متاعبه ومشاعره وأفكاره وأحلامه، وأدقّ تفاصيله، في الوقت الذي لا يبيح المساحة نفسها للصديق، هنا لا بدّ من الإقرار أن ثمّة خللاً في علاقة يفترض أنها حرّة بالمطلق، نذهب إليها بملء إرادتنا، بمعزل عن اعتبارات القرابة والزمالة والجوار، ونفترض فيها الراحة النفسية والحرية والانطلاق، والبعد عن حسابات المصلحة الشخصية ومشاعر الحسد والغيرة والتملّك، ونقدّر بكلّ الأحوال أنها علاقة ثمينة وغير قابلة للتكرار.
قد يُقدم أحد الأطراف، من دون قصد أو إدراك، وبسبب الألفة والمحبّة والارتياح الزائد، على تصرّفات تتسم بالأنانية وعدم الحساسية وعدم مراعاة مشاعر الآخر، ما يخدش العلاقة في حال تكرار مثل تلك التصرّفات المؤذية، ومن باب الحرص على ديمومتها، لا بدّ من المواجهة بصراحةٍ وشجاعة، والتعبير عن مشاعرنا من دون مواربة أو مجاملة، نواجه الصديق بأخطائه وعيوبه ونعاتبه بقدر محبّتنا، كما علينا في الوقت نفسه مراجعة أنفسنا والتأكّد بأننا جديرين بهذه العلاقة الحرّة السامية القائمة على الحبّ والثقة والاكتراث والدعم، ما يُخفّف من تصحّر ووحشة هذه الحياة غير الرحيمة في معظم الأحيان.