أسامة الرفاعي وبناء ما دمّره الأسد
الشرع (يمين) وأسامة الرفاعي في قصر الشعب في دمشق (28/3/2025 وكالة الأنباء السورية في X)
بعد يوم من اعتقال مفتي سورية السابق (المُقال) أحمد حسّون في مطار دمشق، قرّر الرئيس أحمد الشرع تعيين الشيخ أسامة الرفاعي مفتياً عاماً لسورية، يرأس مجلساً أعلى للإفتاء. ولا يبدو القرار مجرّد استعادة منصب تاريخي رمزي، بل يعكس جهداً استراتيجياً يبذله الشرع لتوطيد السلطتَين الدينية والسياسية، بإعادة "ما دمّره النظام الساقط"، بحسب تعبير الشرع. لكن للقرار تداعياته، لا سيّما على الخطاب الديني وتوازن القوى داخل التيّار السلفي وفصائله المتعدّدة، وفي مقدّمها هيئة تحرير الشام بقيادة الشرع، ما يعكس تعقيدات المرحلة الانتقالية في سورية.
لطالما احتلّ منصب المفتي مكانةً مرموقةً في التاريخ الديني والثقافي للبلاد، وقد منحه بشّار الأسد لأحمد حسّون في العام 2005. وعلى الرغم من ولاء الأخير الشديد للنظام إلى درجة تبريره مجازر الأسد (لقّبته المعارضة "مفتي البراميل")، أُقيل حسّون (2021)، حين ألغى الأسد منصب المفتي بعد أن كان سلطة قائمة بذاتها، لتُسند الفتوى إلى مجلس فقهي تابع لوزارة الأوقاف، ضمّ أعضاء من مختلف الطوائف والأديان (ثلثهم شيعة)، ما فُهم أنه خطوة موجهة ضدّ الغالبية السُّنية في البلاد، لتقليص حضورها الديني في حدود عضوية مجلس طائفي، ما ألغى عملياً الصفة الرسمية للمرجعية السنّية، ومنحها للمرجعية الشيعية. وعلى غير العادة، خلا مجلس الشعب "المُنتخَب" في يوليو/ تموز 2020، من أيّ عضو من المؤسّسة الدينية السُّنية، وتقلّص عدد التجّار السُّنة لمصلحة زعماء الميليشيا. تزامن ذلك مع إحكام النظام (ابتداءً من 2017) قبضته على معظم المراكز الحضرية في سورية، ومع تنامي النفوذ الإيراني في مؤسّسات الدولة ومفاصلها، واكتفى الأسد بالتحالف مع رجال المال وتجّار الحروب والمخدّرات، لإنعاش سلطة ابتلعت الدولةَ ومؤسّساتها.
اليوم، يعيد مجلس الإفتاء الأعلى برئاسة اسامة الرفاعي، المُعيَّن من الشرع، رسم خريطة النفوذ الأيديولوجي الديني بضمّ شخصيات من مختلف المذاهب الإسلامية السُّنية (سلفيون وصوفية وأشاعرة)، والهدف المُعلَن تعزيز الوحدة الدينية وتجنّب الانقسام، عبر ضبط الخطاب الديني المُعتدل الذي "يجمع بين الأصالة والمعاصرة مع الحفاظ على الهُويَّة". يُراد للخريطة الجديدة إضعاف نفوذ رجال الدين السلفيين المستقلّين من خلال هيئة منظّمة، وتقليل خطر الفتاوى الراديكالية التي زعزعت استقرار الحكم (مجازر الساحل). لذلك، اختار الشرع شخصية لها تاريخ طويل من النشاط الديني ومعارضة النظام البائد. لكنّه ليس مجرّد اختيار رمزي، بل يعكس مقاربةً براغماتيةً للحكم، تسعى إلى استخدام السلطة الدينية أداةً للشرعية والتماسك.
ويوحي التصديق على نهج الرفاعي (بتعيينه مفتياً) المتجذّر في الصوفية بأن السلطات الجديدة تنأى بنفسها عن الميول المحافظة المتطرّفة، التي رسمت صورة هيئة تحرير الشام، ويبدو أن السلفيين المتشدّدين قد استشعروا الخطر، فمعروفٌ عن أسامة الرفاعي موقفه الصارم خلال سنوات الثورة من التطرّف الديني، ومن المقاتلين الأجانب، وسبق أن انتقد هيئة تحرير الشام. وللسلفية مآخذها على التيّار السُّني الأشعري (الصوفي) عموماً، الذي ينتمي إليه معظم أعضاء مجلس الإفتاء (باستثناء أربعة سلفيين من أصل 14)، فترى أنه طالما استقوى بسلطتَي الأسدَين (الأب والابن)، وقوّاهما، لاستمراره مهيمناً في المجتمع. قد تنظر العناصر السلفية الأكثر تطرّفاً داخل هيئة تحرير الشام، وفي فصائل رديفة، لتعين أسامة الرفاعي محاولةً للحدّ من نقائها الأيديولوجي. فبعد يومٍ من تعيين الرفاعي، تداولت منصّات التواصل الاجتماعي فيديو لسلفيين يعتدون على حلقة صوفية داخل مسجدٍ في حماة استنكاراً لتلك الطقوس. وعلاوة على مخاطر تذمّر سلفي متشدّد، يزيد تأكيد السردية الإسلامية السُّنية شعور الأقليات الدينية والإثنية (العلويون والدروز والمسيحيون...) بالتهميش، حتى الأكراد بدأوا يذكّرون بفتاوى أسامة الرفاعي المؤيّدة لتركيا في مواجهة قوى كردية.
في فترة انتقالية محفوفة بعدم اليقين، قد تعزّز محاولة إعادة رسم خريطة النفوذ الديني واقع الاستقطاب الطائفي، بدلاً من ترويج خطاب ديني "معتدل"، خصوصاً في غياب نظام سياسي تشاركي، وآليات حوكمة شفّافة تمنع الانحدار نحو الاستبداد السياسي، الذي كان أداة هتكت السلم الأهلي، ودمّر بها نظام الأسد الساقط المجتمع والدولة في سورية.