أزمة النقد في إسرائيل... عزلة أخلاقية

27 مايو 2025   |  آخر تحديث: 08:45 (توقيت القدس)

جنود إسرائيليون يؤدون طقوساً تلمودية عند الحدود مع قطاع غزّة (3/2/2025 الأناضول)

+ الخط -

يوثق جنود إسرائيليون جرائمهم بحق الفلسطينيين، ومشاهد الخراب التي ألحقوها بمناطق قطاع غزّة وأحيائه، حيث لم يبقَ حجرٌ على حجرٍ، ولا أثرٌ يدلّ على أن بشراً مرّوا من هنا يوماً. يبثّون هذه المشاهد في "السوشيال ميديا" فيديوهات عن "بطولاتهم"، تتابعها وأنت مثقلٌ بمشاعر الغضب والحزن والعجز، ولا بد أنه تسلّل إلى ذهنك سؤال موجع: هل يعتقد أولئك الجنود أن تحت الركام قضى مقاتلو حركة حماس فقط؟ ألا يخطر ببالهم أن رضّعاً قضوا هناك جوعاً، أو اختناقاً بعد نفاد الأوكسجين من حاضنات المستشفيات؟ أما يفكرون في طفلةٍ كانت تحضن دميتها لتجنبها شظايا صاروخٍ أطلقته غارة غاضبة من "أعمدة السماء" أو من مدفعية "مركبات" الأرض؟
قلّة في إسرائيل يجرؤون على طرح أسئلة كهذه بدافع الضمير، فالمنتقد خائنٌ منبوذٌ من جوقة القومية المتطرّفة. آخرون يجاهرون بالنقد بدافع الحسابات السياسية البراغماتية الباردة، محذّرين من تبعات دولية: صورة إسرائيل تنهار، وعزلتها في تفاقم. من بين هؤلاء أخيراً، رئيس حزب الديمقراطيين، يائير غولان، في تصريحاته عن "هواية قتل الأطفال"، ورئيس الوزراء الأسبق إيهود أولمرت في حديثه عن جرائم الحرب وإرهاب بن غفير وسموتريتش. ذلك في إسرائيل نقدٌ مغفور، في حين يُطارَد همسُ النقد إن خرج من رحم مُحاكمة أخلاقية صادقة، فيغدو صاحبُه هدفاً مشروعاً، يدفن حيّاً في ذاكرة الجماعة. يروي إدوارد سعيد في تقديمه كتاب إسرائيل شاحاك "الديانة اليهودية وتاريخ اليهود... وطأة 300 عام" (شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، بيروت، 1997) كيف أصبح شاحاك "خائناً" في إسرائيل، ومكروهاً من أصدقائها، إلى درجة أن صحيفة واشنطن بوست نشرت خبر وفاته وهو لا يزال حياً، ولم يلقَ شاحاك في زيارته الصحيفة مَن يعتذر أو يصحّح الخطأ. كشف شاحاك، وهو الناجي من معسكرات النازية، التماهي الخطير بين السياسة والدين في إسرائيل، ورأى في الصهيونية تكراراً للعزلة التلمودية بلباس دولة حديثة، إذ تُؤوَّل النصوص الدينية لتبرير الحروب، ولمعاملة غير المتديّنين والنساء بتمييزٍ صارم، ولتصنيف "الأغيار" خطراً دائماً. في هذا السياق، تحوّلت الكابالاه من تقليد صوفي روحي لإصلاح العالم عبر التأمل والسلوك الأخلاقي إلى أداة سياسية بيد اليهودية الأرثوذكسية.
فسّر الحاخامات الصهاينة عودة اليهود إلى فلسطين خطوة خلاصيّة، وأصبح الاستيطان بعد 1967 فعلاً مقدّساً يُقرّب مجيء "الماشيح". انقلب المفهوم المركزي في الكابالاه، "تيكون عولام" (إصلاح العالم)، من سعي أخلاقي إلى تقسيم للعالم بين "قدّيسين" يهود و"أغيار" لا يستحقون الكرامة. وفي مناخ متوتّر من التدين القومي والهيمنة الأرثوذكسية، حيث يتقاسم المتطرّفون الحاخامية مع السياسة، يتحوّل النقد زندقةً، ويُدفَع العلمانيون إلى هامش الصمت والعزلة، في انعكاسٍ صريحٍ لشلل الضمير الجمعي. لذلك، تأثير الأصوات التي تنتقد الحرب بدافع الضمير في إسرائيل محدود، ويهيمن التيار الديني القومي على الجيش الذي يشهد تغلغلاً متسارعاً لخرّيجي المدارس الدينية القومية، وتضم وحدات النُّخبة والضباط الكبار متدينين صهاينة كثيرين، ويقدّم الحاخامات العسكريون تفاسير دينية تجعل الجيش أداةً لـ"الخلاص اليهودي" لا مجرّد مؤسّسةٍ أمنية، ولم يعد الفلسطيني هدفاً عسكرياً، بل مانعاً مادياً يحول دون الخلاص الروحي، فقتله "تكليف مقدّس"، وليس قراراً سياسياً.
تحت حالة دائمة من التهديد الوجودي المتخيّل، ينجذب الجمهور الإسرائيلي إلى خطاب ديني يُقدِّم له الأمن أمراً مقدّساً، ما عزل المجتمع الإسرائيلي عن التفكير الأخلاقي العالمي، فأيّ نقدٍ "انهزامية"، أو "كراهية للذات اليهودية"، أو "خيانة لمشروع الخلاص"، ولا غرابة في أن يسمّي الجيش عمليته البرية في غزّة بـ"مركبات جدعون"، إيغالاً في توظيف الأساطير الدينية في العمليات العسكرية، ما يُنتج فاشيةً دينيةً سياسيةً تُغتال فيها آخر فسحات الحرية. وهكذا، فما يدور في غزّة "معركة مقدّسة"، يصعب اختراقها بالمنطق الإنساني أو بالقانون الدولي، وما تنبّأ به شاحاك (وغيره) ممن تجرّأوا على النقد الأخلاقي الدافئ، يتحقّق الآن بشكل أكثر رعباً: حرب مبرّرة بالنصوص الدينية وضمير جماعي مُخدّر بسردية لاهوتية تُحوّل القتل خلاصاً، وتُلبس الجريمة ثوب القداسة.