أربعون عاماً على معركة الشقيف

أربعون عاماً على معركة الشقيف

08 يونيو 2022

قلعة الشقيف في بلدة أرنون اللبنانية (21/8/2016/فرانس برس)

+ الخط -

نشرت صحيفة "العربي الجديد" مقالات ومراجعات عدة لزملاء أكارم عن قلعة الشقيف ومعركتها، ومن ضمنها مقالان لكاتب هذه السطور؛ "إضاءات على قلعة الشقيف"، نُشر في 18/6/2018، وتحدثت فيه عن تاريخ القلعة الممتد منذ الحروب الصليبية، وأهميتها كنقطة مراقبة يمكن منها رصد التحرّكات الإسرائيلية في أجزاء من الجليل وهضبة الجولان، وصولًا إلى جبل الشيخ. وتطرّقت، بشكل عابر، إلى المعركة التي حدثت قبل أربعين عامًا، في 6/6/1982، وعدّتها المجلة العسكرية الفرنسية واحدةً من أربع معارك كبرى للقوات الخاصة نشبت منذ الحرب العالمية الثانية. وسبق هذا المقال مقال آخر في 27/6/2016، بعنوان "قلعة الشقيف ووزارة الثقافة اللبنانية"، انتقدت فيه يافطة إرشادية وضعتها وزارة الثقافة اللبنانية على مدخل القلعة التي أُعيد ترميمها بمنحةٍ سخيّة من الكويت، بعد دمار شامل لحق بها، وهي تبيّن التسلسل التاريخي للوقائع التي مرّت على القلعة منذ بنائها، وورد فيها أنه في "عام 1976 يحتل الفلسطينيون الموقع الذي يتعرّض لغارات إسرائيلية، وفي عام 1982 يحتل الإسرائيليون الموقع بعد قتال عنيف، وفي عام 2000 ينسحب الإسرائيليون من القلعة بعد هجوم من المقاومة اللبنانية". وقد تعرّض المقال للمغالطات في هذه اللوحة، من حيث اعتبار المقاومة الفلسطينية قوة محتلة، في حين أن قوات مشتركة فلسطينية – لبنانية رابطت في القلعة وعلى تخومها، أو أن الإسرائيليين قد انسحبوا منها بعد هجوم للمقاومة اللبنانية، والحقيقة أن القلعة تعرّضت لهجمات عدّة من المقاومين بعد احتلالها، لكن القوات الإسرائيلية كانت قد أخلتها وسلمتها لقوات الحزام الأمني بعد احتلالها بأسبوع فقط. وللإنصاف، نزع شباب لبنانيون هذه اليافطة، وقدّمت وزارة الثقافة اعتذارًا عنها. ولعل تلك اليافطة الإرشادية تعبّر تمامًا عن الواقع اللبناني الذي فيه كل شيء محلّ خلاف، تاريخيًا كان أم حاضرًا أم مستقبلًا أم هوية.

أثارت معركة القلعة نقاشًا حادّا في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية عن أهداف العملية وضرورتها، كما جرى الاعتراف تدريجيًا بخسائر كبيرة تكبّدتها قوات العدو

خلال الأربعين عامًا الماضية، صدرت كتب صهيونية، وأُنتجت أفلام وثائقية لقنوات إسرائيلية وعربية، تناولت تفاصيل المعركة وأسرارها التي ما زالت تتكشف، وتفند الروايات السابقة وتوضحها. فعلى مرو الأيام، أثارت معركة القلعة نقاشًا حادّا في الأوساط السياسية والعسكرية الإسرائيلية عن أهداف العملية وضرورتها، كما جرى الاعتراف تدريجيًا بخسائر كبيرة تكبّدتها قوات العدو، والتي كان البيان العسكري الإسرائيلي الأول قد أعلن كاذبًا أن القوات الإسرائيلية لم تتكبّد أي خسائر. وفي فيلم وثائقي، بثّته القناة العاشرة من التلفزيون الإسرائيلي بعنوان "الجرح الأخضر النازف"، جرت مقابلة عائلات القتلى وذويهم، وكُشفت تفاصيل المعركة والخلاف بشأن جدواها، ويظهر في الفيلم ضباط وجنود شاركوا في المعركة، ومن بينهم الجنرال أفيغدور كهلاني، قائد الفرقة المكلفة باحتلال منطقة النبطية، والجنرال غابي أشكنازي، قائد قوات غولاني التي كُلّفت باحتلال القلعة، والذي أصبح لاحقًا رئيسًا لأركان الجيش الإسرائيلي. ويطرح معلّق الفيلم أسئلةً، مثل ما هي جدوى احتلال القلعة؟ ومن الذي أمر بذلك؟ وهي أسئلةٌ عجزت لجنة تحقيق إسرائيلية بعد الحرب عن الإجابة عنها، لكن القادة الميدانيين يؤكّدون أن احتلال القلعة لم يكن ضمن الخطة الأصلية للهجوم، والتي كانت تقضي بتجاوزها، وأن تعديلاتٍ طرأت على هذه الخطة في اللحظات الأخيرة، كان الهدف منها تحقيق نصر معنوي في اللحظات الأولى للحرب، وهو هدفٌ، برأي القادة العسكريين، كلف القوات خسائر كبيرة من دون مبرّر عسكري، ففي اللحظات التي احتلت فيها القوات الإسرائيلية القلعة كانت قد أتمت حصار صيدا، وأصبحت في الطريق إلى بيروت.

يؤكّد المؤرّخ الإسرائيلي يغآل كيبنيس، في كتابه الذي صدر حديثًا بعنوان "1982 – لبنان الطريق إلى الحرب"، أن مناحيم بيغن "لم يضلّل، وأنه هو الذي قاد إسرائيل إلى هذه الحرب"، وهو الذي حدّد أهدافها السياسية، لكن شارون تحوّل إلى المتهم بشنّها، عندما هبطت المروحية التي تقله في القلعة في اليوم التالي للمعركة، وتبعتها بلحظات مروحية أخرى تُقلّ بيغن، ويصف كيبنيس بيغن "بأنه بدا ساذجًا أمام الجنود، ومعزولًا عن أحداث الليلة السابقة، ولا يعرف عدد القتلى والجرحى في صفوف قواته". وقد صوّرت وسائل الإعلام الإسرائيلية الحوار بين بيغن والجنود الإسرائيليين الذي أجابوا إن عددًا من رفاقهم قد قُتلوا، وأنه لم يستسلم أحد من المقاتلين الفلسطينيين الذين قاتلوا بضراوة. صُدم بيغن من إجابات الجنود، ويبدو أنه أيقن أن هذه الحرب لن تكون نزهة، وهو الذي تساءل إن كانت لدى المقاتلين الفلسطينيين أسلحة، وهل قاتلوا أم هربوا؟ بدا عليه الوجوم من أجوبة الجنود، وكانت هذه زيارته الأولى والأخيرة إلى لبنان، وقد بُثّ هذا التسجيل بعد الحرب بأعوام.

أمكن تحديد خسائر القوات الإسرائيلية عبر مصادر عدة، فثمّة طيّار أُسر فجرًا عندما سقطت طائرته من طراز سكاي هوك، وأربعة ضباط من قيادة الأركان قُتلوا عصرًا عند إسقاط الطائرة المروحية التي كانوا يستقلونها. وعلى أثر ذلك، منع رئيس الأركان الإسرائيلي، رفائيل إيتان، تحليق أي طائرة مروحية من دون إذن خطي منه، كما قُتل قائد الهجوم الأول، وجُرح قائد كتيبة القوات الخاصة واثنان من قادة سراياه، وثمّة تعداد لأسماء نحو عشرة من الجنود والضباط القتلى الذين تمكّن مخرج الفيلم الصهيوني من مقابلة عائلاتهم. ويورد زئيف تشيف تفاصيل أخرى عن خسائر القوات الإسرائيلية في المعارك التي دارت حول القلعة في كتابه الحرب المضللة.

تعدّدت الروايات المتداولة، من حيث عدد الشهداء، وإن أجمعت على استشهاد جميع المدافعين عن القلعة، وهذا غير صحيح

لم تصدر رواية فلسطينية رسمية عن المعركة، والروايات المتداولة تعدّدت، من حيث عدد الشهداء، وإن أجمعت على استشهاد جميع المدافعين عن القلعة، وهذا غير صحيح، إذ تمكّن خمسة مقاتلين من الخروج منها عبر المنحدر الوعر، مستغلين انسحاب القوات الإسرائيلية التي تجمّعت في باحتها بعد تعرضها لوجبة صواريخ بعد منتصف الليل، وقد استشهد لاحقًا اثنان منهم في معارك أخرى، في حين بقي ثلاثة آخرون، أحدهم مصري، والثاني أصبح أستاذًا جامعيًا في علم الاجتماع، والثالث أصبح رئيسًا لإحدى بلديات قرى الجنوب اللبناني، ففي القلعة اجتمع مقاتلون فلسطينيون ولبنانيون ومصريون وسوريون ويمنيون، وكان نائب قائد القلعة مقاتل يمني، اسمه عبد القادر الكحلاني، استشهد فيها مع قائدها الشهيد يعقوب سمّور.

لم يكن صمود المقاتلين في القلعة وليد ساعته، فهذه المعركة البطولية التي بدأت ظهيرة الرابع من يونيو/ حزيران، وتعرّضت فيه القلعة ليومين من القصف العنيف الجوي والمدفعي لم يُجرح فيه مقاتل واحد، وبقي أبطالها في مواقعهم، واشتبكوا، بشكل مباشر، مع القوات المهاجمة بمختلف أنواع الأسلحة، بما فيها السلاح الأبيض والاشتباك بالأيدي، كما يروي الجنود الصهاينة، كانت نتيجة عامين من الجهد والعرق والتدريب والتحصين وحفر الخنادق والأنفاق، والاستعداد لهذه المعركة التي رويت في كتابي "تبغ وزيتون"، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات (2017)، كُلًا من الروايتين الإسرائيلية والفلسطينية، بحكم موقعي، في ذلك الوقت، قائدًا للقوات المشتركة الفلسطينية واللبنانية، إلا أن الأيام ما زالت تكشف لنا في كل يوم مزيدًا من التفاصيل عن هذه المعركة الخالدة.

34BA9C91-C50D-4ACE-9519-38F0E79A3443
معين الطاهر

كاتب وباحث فلسطيني، عضو سابق في المجلس الثوري لحركة فتح والمجلس العسكري الأعلى للثورة الفلسطينية، ساهم في تأسيس الكتيبة الطلابية منتصف السبعينات، قائد للقوات اللبنانية الفلسطينية المشتركة في حرب 1978 منطقة بنت جبيل مارون الراس، وفي النبطية الشقيف 1982.