أحمد زكي .. الدور الذي لم يُنفّذ

أحمد زكي .. الدور الذي لم يُنفّذ

08 مارس 2022
+ الخط -

مثّل أحمد زكي، بشهادات عديدة، معادلة فارقة في أدائه الفني، لكن البعد الآخر لشخصيته كان حاضراً في الجدل عن حياته التي أثرت على أفكاره وعلاقاته. كان الثابت في ذلك أن طبيعة الثورة الشخصية في وجدانه ومعاناة طفولته في طبقة المحرومين، قد شكّلت له دافعاً قوياً في كل منعطفاته الفنيّة، وخصوصا في تقمّص الشخصيات التاريخية. وفي إحدى حلقات برنامج "ممنوع من العرض" الذي بُث من سنوات عن حياة أحمد زكي، استضيفت شخصيات عدة بعضها تحمل تقديراً وحباً شخصياً، وبعضها نقداً قويا له في قالب دبلوماسي. وكانت أهم الشهادات للماكيير محمد عشوب الذي كان صديقاً لزكي، لعل تدفق حديثه عنه بحب ظاهر أعطى مصداقية واضحة عن الإنسان الآخر الذي كان يعيش في (جوانيّة) الداخل النفسي الذي حضر في أعمال أحمد زكي، وفي ضميره الذي تشكّل، منذ حكاية حرمان تحولت إلى ما يشبه الثورة النرجسية، والتي أشار لها عديدون من زملائه، فأثرت على حياته الاجتماعية والفنية، وقد تكون أضرّت بأقرب الناس إليه، وساهمت في قرار انفصاله عن الفنانة التي أحبّها، هالة فؤاد، وكاد أن يؤذي نفسه بعد خبر وفاتها. 
وفي شهادات زملائه عديد من مواقف الثورة النرجسية التي تشمل تمزيق السيناريو والعراك والاشتباك بالأيدي مع أقرب الناس إليه في الإخراج والإنتاج، وبعض العنف في الأداء التمثيلي لمشاهد متعلقة بالدور الذي ينفذه، رأى رفاقه أنه تجاوز الحد إلى تقمّص حقيقي عبر استدعاء قوي تعلق بالشخصية المجسدة.
هناك آلام تأخذك مع زكي وغضب عليه في رحلته، لكن هذه الرحلة التي أُذيعت تفاصيلها، بما فيها مشاعر زملاء تلمس في حديثهم نبرة غضب أو إدانة. وهي هنا الرواية الأخرى للفن، وخصوصا السينما والمسرح، وهو الصراع الشخصي أو الاجتماعي أو التنافس داخل المسار الفني، فإلى أي مدىً يمثل الفنان حقيقة الرسالة والمشهد، وإلى أي مدىً يتأثر فتتغير الصورة التي جُسّدت في هذا الموقف أو المسيرة الشخصية. في حالة أحمد زكي، كان الجميع يؤكد أنها كانت قوة دافعة لا مثيل لها، في نقل العمل الفني إلى صورةٍ تشابه الحقيقة عبر ذوبانه في الشخصية.

زكي كان بالفعل يتعرّض لكلماتٍ جارحة، خلال حياته الفنية، استدعت لديه ذلك المخزون الهائل من الغبن والظلم واضطهاد الطبقات في مصر

كان يحرص، رغم تباين أدواره، على أن يستوعب تفاصيلها. وهكذا كان في شخصيتي طه حسين وأنور السادات، وفي آخر عمل توفي فيه، وهو حياة عبد الحليم حافظ. يذكر زملاؤه، خصوصا في تجسيده "أيام السادات"، وذُهلت منه جيهان السادات نفسها، أن أحمد زكي كان يستشعر بالفعل أنه شخصية ذات كاريزما، فيحدّثهم خارج العمل باسم الرئيس الذي تقمّص دوره في العمل الفني، فهل كان أحمد زكي يمازح أقرانه أو رفاقه؟ هكذا يبدو، لكن سياق الحديث يشير إلى حالة تنفيس ذاتية تبعاً لنرجسيته الثائرة.
ما لا يتحدّث عنه الرفاق، ولكنه وثّق في بعض الذكريات عنه، أن زكي كان بالفعل يتعرّض لكلماتٍ جارحة، خلال حياته الفنية، استدعت لديه ذلك المخزون الهائل من الغبن والظلم واضطهاد الطبقات في مصر، وهي حكاية عذابات للعالم، لا مصر وحدها، حين يختل ميزان العدل. ولذلك تجسّدت هذه الروح بقوة في فيلم "البريء"، والفكرة اليسارية المقاومة التي عكستها قصة وحيد حامد، ثم جسّدها أحمد زكي بإبداع مذهل.
الروايات عن غضب زكي وانفعاله، وما تعرّض له في الوسط الفني أيضاً، لا بد أن يَطرح لفهمها بالمقابل مصداقية الذات والأداء في الموقف الأخلاقي للفنان، في الأجواء التي عاشها أحمد زكي من الآخرين، أو في انعكاس الثورة النرجسية التي غيّرت حياته، ثم رحيل مطلقته، ثم رحيل ابنه هيثم بعده في وقت مبكر، وهو استدعاء متكرّرٍ للحزن. ونحتاج أن نراجع هنا السجل الآخر الذي يُكشف عنه في حياة أبطال "هوليوود" وغيرهم، وفي الوقت ذاته، نستحضر أثر الفنين، السينمائي والمسرحي، في حياة الشعوب، وأن حجم الاختلاف معه في جدل الإسلاميين لم يغيّر أثرها القوي على أفكار الشعوب.

في تجسيدات أحمد زكي المبدعة، نلاحظ الفرق الكبير في الأساس الفني وأدوات التصوير والمونتاج مع الغرب

وفي تجسيدات أحمد زكي المبدعة، نلاحظ الفرق الكبير في الأساس الفني وأدوات التصوير والمونتاج مع الغرب، وهو ما يدعونا إلى التساؤل عن غياب هذا الإبداع التقني، والأهم قوة القصة الفنية ومصداقية قيمها ونفعها للشعوب. وفي مأساة أحمد زكي التي يتحمّل بعض مسؤوليتها مع مراعاة ظرفه، يظهر لنا صديقه الكاتب الصحافي، عادل حمودة، وهو يروي عن موقفٍ مؤلم للغاية قرأتُ فيه رسائل متعدّدة، ما بين حضور الضمير الديني بقوة في الحياة الاجتماعية للمصريين، رغم تباينهم فيه وصراعهم، والأثر المروع للثورة النرجسية في وجدان أحمد زكي، وهذه المرّة مع والدته. لقد عكس إلحاح حمودة عليه للقاء والدته قبل موته، واستحضاره المعنى الإيماني، حنين هذا الوجدان الذي ذكرت، وتعلقه بمفهوم الإيمان الروحي، بغض النظر عن قناعته الشخصية عن طبيعة علاقة الدين في الحياة.
رفض زكي أن يلتقي بوالدته التي هجرها تأديباً لها، بسبب ظروف زواجها وغيابها عنه أول طفولته ست سنوات. وقد تكون هناك تفاصيل غابت عنا، لكننا، ونحن نستمع الحكاية من عادل حمودة، وهو الأقرب للاثنين، نشعر بالغضب والأسى معاً، حين يرفض زكي لقاء والدته التي كانت تنتظر عند باب غرفته في المستشفى، كبابٍ كما قال حمودة من أبواب القرب الأخير من الله قبل الرحيل.
مضى زكي إلى رحمة الله، ولكن السيناريو الذي لم يكشف كان في شخصيته التي جمعت بين أثر الحرمان والظلم في تجسيد بطولاته الفنية وثورته النرجسية التي أضرّت به وبآخرين، فاختلّ ميزان المبدع الذي يصنعه الحرمان والتحدّي، لأن الأمل دوماً أن تنعكس المعاناة على ظلنا في الحياة، لنمدّ الناس بالعفو والحبل الذي انقطع عنا.