أحصنة طروادة في بلاد عربية

أحصنة طروادة في بلاد عربية

20 ديسمبر 2021
+ الخط -

الخدعة إياها التي استخدمها أوديسيوس لفتح طروادة العنيدة من الداخل باتت نموذجاً يُحتذى للسياسة الإيرانية في المنطقة العربية. ليس تمهيداً لاحتلال المنطقة العربية مباشرة، بل وسيلة للترويض أو القضم بالتدريج، أقل كلفة بكثيرٍ من الحروب، بمفهومها العسكري العاري. وعليه، بات من الضروري على شعوب المنطقة الثائرة أو الهامدة ألّا تقبل الهدايا من أيٍّ كان، قبل أن تتفحّص النيات المختبئة وراء حجاب الهدية. أقصد أولاً دخول حصان طروادة الفارسي على خط تبنّي قضية فلسطين والقضاء على دولة إسرائيل، الخط الذي يتزعمه حزب الله، ذراعها الرئيسي دون منازع. وأيضاً حصان آخر تمتطيه باسم الله وتصدير الثورة، كما فعل الإغريق تماماً، حين ادّعوا أن "الحصان" هدية للإلهة الإغريقية نيرفانا، واختبأت سفنهم خلف جزيرة قريبة. هكذا فُتحَت طروادة، وباسم الله وفلسطين جرى التغلغل في أربع عواصم عربية برضى الشعوب وتأييدها، بعد تقاعس أنظمة عربية أساسية عن تأدية واجباتها القومية تجاه فلسطين، أقصد في مصر وسورية، وعدم المبادرة إلى ملء هذا الفراغ من زعامة بديلة للمنطقة، هي السعودية، كما كان من المأمول أن تفعل. الفراغ الذي نشأ عن هذا التقاعس هو ما سمح لإيران بالتسلّل سعياً إلى ملئه. وها هي إيران، عبر حزب الله ووكلائها في المنطقة، تمسكنت عبر الخداع حتى تمكّنت، فمنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران، وما قبل الانتصار، كان الخميني وآيات الله رفاقه ينحتون بدعتهم "الطروادية" على طريقة أوديسيوس، القائد الإغريقي الأشد مكراً، فالتسلل إلى المنطقة العربية على حصان فلسطين ومطيّة القضية المقدّسة أسرع وأسهل بكثير في نشر النفوذ الفارسي من المواجهة العسكرية وأقلّ كلفة. وفي المسار ذاته، أعلنوا صراحة، منذ تولي الخميني الحكم في طهران في 1979، استراتيجيتهم لتصدير ثورتهم نموذجاً يُحتذى، ولدعم الحركات الإسلامية (حماس، الجهاد الإسلامي، الإخوان المسلمين...)، أو تأسيس بعضها (حزب الله، عصائب أهل الحق، حزب الله العراقي...) في عموم العالم العربي خصوصاً، والإسلامي عموماً.

رويداً رويداً، كشفت أفعال طهران وأذرعها في المنطقة حقيقة نيّاتها، وكشفت الأحلام التي تدغدغ نظام ولاية الفقيه

تفاقم الأمر مع مرور الوقت، وفي محطات عديدة، أهمها دعم حزب الله والحرس الثوري المباشر النظام السوري في قمع الثورة السورية، في عام 2011 وبعده، تحت ذريعة تحالف محور المقاومة والممانعة، والانخراط في التدمير المنظم للعراق، بواسطة أذرعها، فضلاً عن التنكيل بالشعب العراقي، ولا سيما سُنّة العراق، والوقوف بل والتحريض على الانقلاب على الحكومة الشرعية المنتخبة في اليمن، واحتلال جماعة عبد الملك بدر الدين الحوثي صنعاء، وهو الذي لم يُخفِ تحالفه مع طهران، بل وتلقيه الدعم العسكري منها، الذي أكّده كبار المسؤولين في إيران (صواريخهم الباليستية التي أرسلوها إلى الحوثيين تضرب مدناً سعودية، ولا سيما الرياض)، بل تباهى حزب الله، منذ بداية الانقلاب، بتدريب المليشيات الحوثية ذات المذهب الزيدي (مذهب قريب من المذهب الشيعي). وسعي حزب الله إلى الهيمنة على لبنان عبر مقايضة مكشوفة بتغطية المنظومة الفاسدة وصلت إلى حد إفلاس لبنان وإفلاس اللبنانيين، فضلاً عمّا يجري في غزة من منح مسؤولين في حركة حماس انتصاراتها الإلهية أخيراً لقاسم سليماني وإيران ونظام الأسد، ولا سيما في معركة سيف القدس أخيراً، على حساب الدم الفلسطيني المسفوك، دم كان يمكن أن يحقن ويجد بديلاً له بالنضالات السلمية، التي كانت الأكثر إيلاماً وتهديداً للكيان الصهيوني في هبّة أيار 2021، إذ اتسعت لتشمل معظم المدن الفلسطينية في الأراضي المحتلة عام 1948.
بعد تلك المحطات، وغيرها كثير، لم تعد خدعة "حصان طروادة" تنطلي على كثيرين. ليس فقط في البلدان التي تتباهى طهران بالسيطرة على عواصمها، فذلك بات، بحكم الأمر المفروغ منه، ولا سيما حين يتظاهر مثلاً مئات الآلاف في المدن العراقية ذات الأغلبية الشيعية بشعارات "برّا برّا برّا.. إيران إطلعي برّا". فرويداً رويداً، كشفت أفعال طهران وأذرعها في المنطقة حقيقة نيّاتها، وكشفت الأحلام التي تدغدغ نظام ولاية الفقيه، منذ الخميني، لاستعادة أمجاد الإمبراطورية الفارسية لإعادة السيطرة على الشرق الأوسط، والوصول إلى شواطئ أوروبا أو تهديدها على الأقل.

يشك المراقبون في أن إيران توصلت إلى صنع قنبلة نووية بالفعل. لكن الخطورة تكمن في قابليتها على تصنيع رؤوس نووية محمّلة على صواريخها

نعم، كانت خدعة فلسطين تختبئ خلف تلك النيّات، كما قناع الدين أيضاً، ولا سيما أن تأسيس قواعد عسكرية في العواصم الأربع، فضلاً عن قطاع غزة، هو ما يفسّر القلق الذي تبديه أوروبا حيال البرنامج النووي الإيراني، كما برنامج الصواريخ الإيراني الذي نجحت إيران في التوصل عبره إلى صنع الصواريخ الباليستية العابرة للقارّات، التي يبلغ مداها أربعة آلاف كلم قادرة على حمل رؤوس نووية، يمكنها أن تدمر مدناً أوروبية (يمكن أن تبلغ مدى يصل إلى حوالى 13 ألف كيلومتر). وهو ما يفسّر القلق الذي أبدته الدول الأوروبية المشاركة في مفاوضات فيينا حيال المماطلة التي ينتهجها الوفد الإيراني المفاوض بشأن إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني، ولا سيما أن المراقبين يشكُّون في أن إيران توصلت إلى صنع قنبلة نووية بالفعل. لكن الخطورة تكمن في قابليتها على تصنيع رؤوس نووية محمّلة على صواريخها، سواء صواريخ سكود أو الصواريخ الباليستية. وهذا قد يقودنا إلى فهم الأهمية التي توليها إيران لحزب الله، أقوى أذرعها وأكثرهم مكراً وولاءً، ولا سيما بعد بدء تصدّع تحالفاتها، مع التيار الوطني الحر في لبنان، وأيضاً مع الحوثيين، بحسب تقرير أميركي إثر طلب الحوثيين من السعودية السماح بإعادة السفير الإيراني في صنعاء علي إيرلو، لكونها تسيطر بطيرانها الحربي على الأجواء اليمنية. وقد يعود ذلك إلى تمادي هذا السفير في تجاهل القيادة الحوثية، والتصرف بمعزل عنها، ومن دون اعتبار لوجودها، بحسب تقرير أميركي استخباراتي، ويرصد أيضاً اهتزاز علاقاتها بحلفائها في العراق (مقتدى الصدر مثالاً). فضلاً عن تضعضع وضع أذرعها، وهو ما بينته الانتخابات العراقية أخيراً، التي خسروا فيها أغلب مقاعدهم في البرلمان.

إن كان صحيحاً أن وضع نظام ولاية الفقيه في مأزق متعدّد الرؤوس ومحشور في زوايا عديدة، فذلك سيجعله أكثر شراسةً من ذي قبل

ها هي طهران، على الرغم من كل "الأحصنة الطروادية"، تنكشف شيئاً فشيئاً، ويتضعضع وضعها داخل إيران وخارجها، على المستويين، الشعبي والرسمي، ولا سيما مع ما يحدث من توتر متصاعد مع أذربيجان، نتيجة دعم طهران الحكومة الأرمنية في حرب أذربيجان قبل أكثر من عام لاستعادة إقليم كاراباخ، مع ما يولده ذلك من تهديد داخلي من "أذريي" إيران وتحالفهم مع أعراق أخرى مضطهدة من نظام ولاية الفقيه، كأكراد إيران وعرب الأهواز، فضلاً عن القمع الوحشي للاحتجاجات المتكرّرة للشعب الإيراني على الوضع المعيشي وانتهاك الحريات التي يتمادى الحرس الثوري و"الباسيج" في انتهاكها بشكل غير مسبوق. فضلاً عن استعادة حركة طالبان (السنية) الحكم في أفغانستان، إثر الانسحاب الأميركي أخيراً من أفغانستان. إذ تسعى "طالبان" للانضمام إلى المجتمع الدولي، وتلقيها الدعم الذي يوطد حكمها، لكنها لن تُعوِّل على الدعم الآتي من طهران، ليس من قبيل الاختلاف المذهبي فقط، وهذا بحد ذاته شيء مهم، لكن من قبيل أن "طالبان" تدرك أنها لن تطلب العون ممن يحتاج إليه أساساً، ولا سيما مع الحصار الاقتصادي الذي تعانيه طهران، بسبب العقوبات الاقتصادية القاسية، وليس العزلة الدولية فقط. أيضاً، لأن لحركة طالبان بدائل عديدة، يمكن أن تلجأ إليها وتلعب على حبال عدة، كالصين وروسيا والاتحاد الأوروبي، وحتى الولايات المتحدة نفسها، الحريصة على استمالة "طالبان" في ظل سياسة خارجية تسعى إلى إضعاف الصين، وقطع طرقاتها للتوسّع والنفوذ، أكانت من حرير أم من نار. وهذا غيض من فيض التعقيدات والتصدّعات والتراجعات التي تعانيها إيران، على الرغم مما تبديه من تشدّد في مفاوضات إعادة إحياء الاتفاق النووي وملحقه الجديد: الحدّ من برنامج الصواريخ الباليستية، وخصوصاً الذي تخشاه الولايات المتحدة وعموم الشركاء في الاتفاق، حتى الصين وروسيا، لا الأوروبيين فقط، فالخدع الطروادية وغير الطروادية الفارسية لم تعد تنطلي على أحد. وكل ما نجحت فيه في النتيجة، زعزعة الاستقرار في المنطقة العربية. لكن أوروبا يقظة، وتقرأ التاريخ جيداً. وإن تأخرت ردود فعلها، فهي تملك قوة الردع. لكن العرب ضعفاء، ليس بسبب انقساماتهم، بل لأنهم يرون أنفسهم كذلك. ولأنهم عوض أن يصغوا إلى أصوات شعوبهم، ينحون نحو تعويم نظم الاستبداد التي ثارت عليها الشعوب العربية. بل يعملون على تبييضها كما في مصر، والآن في تونس والسودان وليبيا (قبول ترشيح سيف القذافي للانتخابات الرئاسية مثالاً)، بل هم في مسعى إلى تبييض النظام السوري الأسدي لترتيب سيناريو تحالفات جديدة باعتقادهم. وها هم يخطئون، مرة أخرى، بعدم استنادهم إلى شعوبهم، بسبب الجشع الذي يعمي بصيرتهم، على الرغم من الخطر الداهم القادم من فارس، فإن كان صحيحاً أن وضع نظام ولاية الفقيه في مأزق متعدّد الرؤوس ومحشور في زوايا عديدة، فذلك سيجعله أكثر شراسةً من ذي قبل، بل أكثر استماتة في الحفاظ على مكاسبه التي جناها خلال ثلاثة عقود من المكر والخداع والجرائم والصهيل.

معركة كسر العظم بين إيران وأعدائها الكثر ستكون في لبنان، لأن حزب الله يهيمن ببساطة على بلد يمكن أن يُستخدم في تهديد أكثر من طرف في آن واحد

وهذا ما يقودنا إلى الدور الأهم الذي توليه طهران لحزب الله ولبنان في أي مواجهةٍ محتملة، فمعركة كسر العظم بين إيران وأعدائها الكثر ستكون في لبنان، لأن حزب الله يهيمن ببساطة على بلد يمكن أن يُستخدم في تهديد أكثر من طرف في آن واحد: أوروبا ودول الخليج ومصر وإسرائيل، خصوصاً مع وجود هذا الكمّ الهائل من الصواريخ على أرضه التي هدّد بها أمينه العام، حسن نصرالله، أخيراً، "القوات اللبنانية"، ولكن على طريقة "بحكيكي يا جارة لتسمعي يا كنّة".
يوصل ربط الخيوط مع بعضها إلى هذا الاحتمال، وربما لم يعد بعيداً بعد مفاوضات فيينا التي تلكأ فيها الإيرانيون بالتفاوض، وتوجس منها الأوروبيون، وتغلغل الشك الروسي وربما الصيني، ولم تفضِ بعد إلى نتائج، ولكن جميع أطراف التفاوض، الأصدقاء والخصوم والأعداء، يشعرون بأن إيران تُحضِّر لشيء ما، شيء كبير يجري في الغالب، فإن وجدت إيران أنها فقدت الحيلة، وهي المعتادة على الخداع، فالأخطر قادم، إذ إن الطبيعة الأيديولوجية للنظام ولكبار قياداتها السياسيين والعسكريين هي وراء التغطرس والتهور اللذين يطغيان على سلوك هذا النظام، وهو ما يجب أن يُحسب حسابهُ، وحجر الزاوية بما تُّحضِّر له طهران هو حزب الله.