أبناء لبوبة

أبناء لبوبة

13 مارس 2022

(ياسر صافي)

+ الخط -

كتبتُ، وأنا أخوكم، في "العربي الجديد"، في 20 فبراير/ شباط الفائت، زاوية تناولتُ فيها رئيس محكمة أمن الدولة السابق في سورية، المجرم فايز النوري .. وبعد مشاركتي إياها على "فيسبوك"، علق أحدُ أصدقائي بأنّ هذا الرجل يُعرف بلقب "ابن لَبُّوبة". وكان تعليقه صحيحاً، فاللقب نفسه ما فتئ يتردّد في معظم التعليقات على الأخبار والمقالات التي تتناول سيرة النوري منذ سنوات، نقلاً عن بعض أبناء بلدته الذين حَكم عليهم بسجن مديد.

يدعو هذا الأمر، بطريقةٍ ما، إلى التأمل، والتساؤل عن جدوى التعريض بوالدة المجرم فايز النوري، واتهامها بشرفها. لماذا نسبُّ أمَّه؟ الرجل حَكَمَ بالموت على عشرات الألوف من رجال سورية، وجعل ألوفاً آخرين يبكون لأنهم نجوا من الإعدام، كما يروي محمد برو في كتابه "ناج من المقصلة"؛ فالناجي سوف يتجرّع عذاباً يومياً فظيعاً، لا يمتدّ إلى حين انتهاء الحكم الذي ارتجله النوري فقط، بل يضيف عليه حافظ الأسد بضعَ سنواتٍ من عنده، لتبدو العبارة المكتوبة على باب سجن تدمر (يا داخل هذا المكان انسَ الزمان) غاية في الإصابة، فهل يلزمنا، لكي ندينه، ونستهزئ به، أن نقحم والدته في الموضوع؟ على هذا المنوال؛ كان بعض معارضي صدّام حسين يطلقون عليه، لأجل الإقلال من شأنه، لقب ابن صبحة طلفاح، وعلى حافظ الأسد ابن ناعسة، وعلى بشّار الأسد ابن أنيسة، وقد استخدم متظاهرون سوريون السجع، فغنّوا: "يلعن روحِك أنيسة، على هالخلفة التعيسة"...

كثيرة الحالات التي يسيطر فيها الخطاب الشعبوي على لغة الناس، وبالأخص عندما يحكون عن أشخاصٍ يرتكبون أفعالاً إجرامية، أو بعيدة عن الأخلاق الحميدة، كأن نقول عن أحدهم: ابن حرام صرف .. هذا طعنٌ غير مباشر في نسب الرجل، وفي الوقت نفسه، إيذاءٌ لإنسانية الطفل الذي يُنعت، منذ لحظة ولادته، بأنه ابن حرام، مع أنه لم يرتكب أي ذنب.. ومن جهة أخرى، ربما كان مجرمون كثيرون أبناء علاقات طبيعية، فلماذا نحصر الأفعال الشريرة بالذين ارتكبَ آباؤهم وأمهاتهم الخطايا؟

من الحكايات الواقعية التي كنتُ شاهداً عليها أن طفلاً لقيطاً عُثر عليه، قبل سنوات، عند باب الجامع الكبير في مسقط رأسي، بلدة معرتمصرين (معرة مصرين). لو أن هذا الأمر وقع قبل اختراع الإنترنت ووسائل التواصل، لمرّ بسلام نسبي، إذ تأتي أسرة محرومة من الأطفال، تأخذه وتربيه، والمشكلة لا تنتهي عند هذا الحد، فهذا الإنسان لا يَسلم من حكي الناس ونظراتهم المحمّلة بالإدانة طوال حياته. المهم؛ بمجرّد ما عُثر على الطفل، بدأ اللغط على وسائل التواصل، فراح واحدٌ منهم يشتم، وآخر يحلل، وثالث يطلق الفتاوى، ورابع يلوم... ولأنّني كنت أدافع عن الطفل بضراوة، فقد غضب مني أحدهم، وسألني، بغتة: لو كنت الآن هنا في البلدة، يا خطيب بدلة، هل تتبنّاه وتسجله على اسمك؟ قلت، بلا تردّد: طبعاً، ويشرفني، ولا أقول يشرّف عائلتي، فهذا ليس من حقي.

للأديب المفكر الكبير طه حسين كتاب نفيس، على الرغم من صغره (130 صفحة)، عنوانه "الشيخان"، يتحدّث عن الصحابيين أبي بكر وعمر. مهما يُقَلْ في موضوعية طه حسين وتوخّيه الحقيقة فلن يُسْتَوفى حقه. يتحدّث الكتاب، في أحد الفصول، وبإعجاب كبير، عن النظام الذي أوجده عمر بن الخطاب لتوزيع المال الذي يأتي من البلاد التي تقع ضمن رقعة دولته، على الناس، أكانوا من المقاتلين أو المدنيين، ومن ضمنهم فئة قد لا تخطر بالبال، الأطفال اللقطاء، على أن تسلّم مخصّصاتهم لمن يربيهم، ابتداء من لحظة الفطام. وعندما لاحظ أنّ الناس أمسوا يفطمون أبناءهم قبل الموعد الطبيعي، لكي يحصلوا على المال، غَيَّرَ النظام، وصارت حصة الطفل تُعطى ابتداء من لحظة الولادة.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...