أبعد من قذائف دهوك..

أبعد من قذائف دهوك..

27 يوليو 2022

دخان يتصاعد بعد قصف قرب ديرلوك في دهوك في إقليم كردستان العراق (23/7/2022/ فرانس برس)

+ الخط -

اللعبة الماثلة أمامنا في العراق متعدّدة الوجوه، مختلفة النيات، وقد تكون أيضاً متناقضة المسارات، لكنّها اللعبة المفروضة التي لا قبل للعراقيين بمواجهتها، واللاعبون مختلفون، دوليون وإقليميون، وعراقيون أيضا، وكل منهم يغنّي على ليلاه، وليلى العراقية مريضةٌ ولا أحد منهم يعنيه مرضها.

كان الأسبوع الماضي مليئاً بالمشاهد الصادمة، وغارقاً في سيناريوهاتٍ مخضّبة بالدم والدموع، كما هي العادة منذ عشرين عاماً، ومنذ أتاح الغزو الأميركي البلاد الفرصة أمام القوى الإقليمية لتبسط هيمنتها وتفرض نفوذها، وحتى أن تبعث جيوشها وتقيم قواعدها العسكرية، وتحوّل العراق الى موطن لصراعاتها وخلافاتها، وتسعى كل واحدةٍ منها إلى مدّ خرائطها الاستراتيجية بأمل أن تقضم هذا الجزء أو ذاك، عندما يحين وقت القسمة، وذلك كله في غياب دولة عراقية ذات سيادة تفرض هيبتها، وتمنع التدخل في شؤونها.

أكبر الرابحين في هذه اللعبة المعقدة إيران التي تعدّ العراق امتداداً ديمغرافياً لها، ورأس الحربة في مشروعها الإمبراطوري الذي تستهدف من خلاله المنطقة كلها. ولذلك هي غير مستعدّة للتخلي عن مطامعها في هذا البلد، وتعمل ما استطاعت لإبقاء القرار بيدها، وقد مدّت خرائطها الاستراتيجية عبر العراق إلى ما هو أبعد، إلى سورية ولبنان وإلى اليمن أيضاً، بل اعتبرت بغداد، في أكثر من مرة، واحدة من عواصم إمبراطوريتها، ولذلك هي حاضرة لأن توظف أي حدثٍ عراقيٍّ أو إقليمي لخدمة أغراضها، ولا تسمح بأية محاولةٍ لإفلات العراق من قبضة يدها!

الطبقة السياسية الحاكمة التي نصّبها الاحتلال الأميركي، وكرّست بقاءها الهيمنة الإيرانية، ليست لها الخبرة أو الدراية في إدارة شؤون البلاد

وقائع الأسبوع الماضي تكرّس هذه الرؤية، إذ ما إن تناقلت النشرات العاجلة خبر سقوط قذائف على منتجع برخ السياحي في دهوك بشمال العراق، والتي تسببت في إزهاق أرواح بريئة، تردّد اتهام تركيا بتدبير الهجوم. وقبل أن يتأكد ذلك الاتهام، سارعت القوى السياسية الموالية لإيران إلى تحميل تركيا المسؤولية عن العدوان، والمطالبة باتخاذ إجراءات عقابية ضدّها من قبيل قطع العلاقات الدبلوماسية، ووقف التعامل التجاري معها، واشتغلت الماكينة الإعلامية للمليشيات الولائية لتطلب الاقتصاص من تركيا، وتحرّض على اقتحام مكاتب دبلوماسية تابعة لها في مدن عراقية، واستهدفت مليشيا مرتبطة بالحرس الثوري قواعد عسكرية تركية في محافظة نينوى بصواريخ من طائرات مسيّرة لتزيد الموقف تعقيداً، فيما سعت أنقرة إلى النأي بنفسها عن الواقعة، وألقت بها على حزب العمال الكردستاني المعادي لها، والذي يتخذ من مناطق الشمال العراقي مقرّاً له، ولقياداته التي يقال إنّ حكومة بغداد، ومن ورائها إيران، توفر الغطاء لها، وفي الوقت نفسه، دعت أنقرة إلى تحقيق دولي فني، يحدّد الجهة الفاعلة، لكنّ بغداد التي اعتادت الصمت عن أكثر من عدوان سابق من هذه الجهة أو تلك، وجدت في إحالة الأمر إلى مجلس الأمن ما يحفظ ماء وجهها، ويعفيها من مسؤولية التوجّه إلى حلّ المشكلات المزمنة في علاقتها مع أنقرة، وفي مقدمتها مشكلة المياه، ومشكلة وجود منظمة "إرهابية" على أراضيها تناصب تركيا العداء، وكذا الوجود العسكري التركي على أرضٍ عراقية. وهكذا لم تستغل بغداد الفرصة لفتح حوار موضوعي مع جارتها الشمالية لإرساء علاقات متكافئة بينهما.

توصلنا كل هذه التداعيات إلى جملة من الحقائق التي يعمد كثيرون إلى تجاهلها، أولاها أنّ العراق، ومنذ الغزو، عانى ويعاني من غياب دولةٍ ذات سيادة، ومن ضعف الحكومة وعجزها عن صد التدخلات التي تحصل من دول، أو حتى من منظومات ومليشيات تابعة لهذه الدولة أو تلك.

اختطاف قرار السلم والحرب من مليشيات مرتبطة بجهات خارجية، وهو القرار الذي يفترض أن يكون بيد سلطات الدولة الوطنية حصرا

الثانية أنّ الطبقة السياسية الحاكمة التي نصّبها الاحتلال الأميركي، وكرّست بقاءها الهيمنة الإيرانية، ليست لها الخبرة أو الدراية في إدارة شؤون البلاد، وهي أيضا ليست في وارد التخلي عن مواقعها التي استأثرت بها بدعم أجنبي.

وثالث هذه الحقائق وأكثرها خطورةً اختطاف قرار السلم والحرب من مليشيات مرتبطة بجهات خارجية، وهو القرار الذي يفترض أن يكون بيد سلطات الدولة الوطنية حصرا، وما رأيناه في الرد المسلح من مليشيا معروفة على هجوم دهوك، وإعلان أكثر من زعيم مليشياوي أنّهم سيردّون بالسلاح على كلّ عدوان على العراق، وأنّهم غير معنيين بما تقرّره الحكومة، ما يعني أنّنا أمام ظاهرة توغل المليشيات وتغولها إلى درجة أنّها تطرح نفسها بديلاً عن الدولة.

يبقى السؤال الأخير الذي قد يظل من دون إجابة: من له القدرة على أن يعلّق الجرس في مواجهة هذه اللعبة الشريرة التي هيمنت على العراق عشرين عاماً، ومن سيكفّ أيدي اللاعبين المنغمسة بدماء العراقيين؟

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"