"يوكوزا" تلد "أوكوس"

"يوكوزا" تلد "أوكوس"

09 أكتوبر 2021
+ الخط -

أصدرت لجنة تقييم المعلومات والتقنية في الاتحاد الأوروبي، في ديسمبر/ كانون الأول 1997، تقريرًا أثار وقتها واحدةً من أكبر العواصف في تاريخ العلاقات الأميركية الأوروبية، حمل عنوان "تقييم تقنيات التحكّم السياسي". وأهميته أنه كشف، لأول مرة، وجود شبكة "إيشليون" الدولية للتنصّت، وكانت، حتى نشر هذا التقرير، سرًا لا تعرفه إلا النخب الرسمية الأوروبية. وشبكة "إيشليون" جزء من نظم حدّدتها اتفاقية "UKUSA" بين دول التحالف الإنجلوسكسوني، أميركا، بريطانيا، كندا، أسترليا، ونيوزلندا، عام 1947، للتعاون في ميدان الأمن القومي. وفي الحرب الباردة، طُوِّرت لرصد المعلومات غير العسكرية، فتنصتت على أعمال حكومات وأفراد وشركات عبر العالم، واعتمد عملها على التقاط شتّى المعلومات ومعالجتها باستخدام الذكاء الصناعي. وظلت الشبكة تتوسّع حتى أصبحت تملك شبكة من القواعد التجسسية في دول أوروبية، أهمها مينوذهيل البريطانية.

ثمّة مشكلات كبيرة ومركّبة في العلاقات الأميركية الأوروبية

وصفت "بي بي سي"، في تقرير لها في 2018، الشبكة التجسّسية، والتي أصبحت تُعرَف باسم "العيون الخمس"، بأنها أقوى تحالف استخباراتي في العالم، وبأنها "الوحش الذي تخشاه أعتى أجهزة الاستخبارات العالمية". والكشف عن وجود التحالف الاستخباراتي الجبار أطلق نقاشات سياسية أكثر من النقاشات الأمنية، فالتحالف، ومظلته الثقافية/ السياسية، أكد لمن لديه شك أن "الهوية"، بوصفها تعبيرا عن القيم المشتركة، أكثر تأثيرًا في السياسة الدولية مما يبدو، على الرغم من التكرار الكبير (وفي حالات كثيرة كان تكرارًا غير حكيم) لمقولات أن المصالح وحدها تحرّك القوى الكبرى. وفي العام 2016، جاء الاستفتاء التاريخي على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي (بريكست) إنذرًا بحقيقة أن الإنجلوسكسونية مرشّحة بقوة لأن تعيد هيكلية تحالفاتها العالمية، وبخاصة عبر شاطئي الأطلنطي. ومطلع هذا العام (2021)، كانت الولايات المتحدة تجدد تحالفًا يسمّى التحالف "الرباعي" (كواد)، ضد الصين، يضم أستراليا والهند واليابان. وكانت لحظة الانفجار الكبرى الإعلان عن تحويل التحالف الاستخباراتي الكبير إلى تحالف عسكري: "أوكوس".

وخلال أيام، انطلقت من عواصم أوروبية عديدة سهام الهجوم، بل التهديد، وكانت صفقة الغواصات الفرنسية لأستراليا القضية الأعلى صوتًا، لكن ما وراءها أكبر وأخطر. وفي العمق، ثمّة مشكلات كبيرة ومركّبة في العلاقات الأميركية الأوروبية، جانب منها لا يستهان به يقبع في عالم الأفكار والقناعات، لا المصالح، بل إن تضخّم حجم المصالح الأوروبية، وخصوصا الألمانية، مع خصمين من أخطر خصوم أميركا، الصين وروسيا، ساهم في دفع الحليفين الكبيرين في التحالف الإنجلوسكسوني إلى أن يذهبا بعيدًا في تطوير الشراكة "الهوياتية"، وهما يستطيعان توقع ما ستثيره من عواصف على الجانب الآخر من الأطلنطي.

لعبة الشطرنج العالمية تشهد مباراة تاريخية قد تكون الأهم منذ الحرب العالمية الثانية

والصدع قديم، وجذوره ثقافية في المقام الأول، فعلى الرغم من أن أميركا هي التي حرّرت فرنسا من الاحتلال النازي، فضلًا عن أنها أنقذت أوروبا كلها منه، وعلى الرغم من "مشروع مارشال"، ومن أن حلف الناتو كان مظلة الحماية الرئيسة لأوروبا من الاتحاد السوفييتي، إلا أن فرنسا انسحبت من الجناح العسكري للحلف في العام 1966، وعادت إليه في 2009. ومن الحقائق ذات الدلالة هنا أن 238 عضوًا في البرلمان الفرنسي عارضوا القرار، خوفًا من الهيمنة الأميركية!

وخلال مسيرة الاتحاد الأوروبي، كانت فرنسا، أكثر من أي قوة أوروبية أخرى، تسعى إلى أن تجعل "الأوروبية" وسيلة للتباعد بين شاطئي الأطلنطي. وقد وصل طموحها، في هذا السياق، إلى أن تقترح على ألمانيا أن تصبح تحت "المظلة النووية الفرنسية"، بأمل إبعادها عن أميركا، وهو ما رفضته ألمانيا بشدة. وفي خطوةٍ أبعد طموحًا، تحاول فرنسا منذ سنوات جعل أوروبا كلها تحت مظلتها النووية.

ولعبة الشطرنج العالمية الممتدّة من بكين وموسكو وصولًا إلى واشنطن، مرورًا بباريس وبرلين ولندن، تشهد مباراة تاريخية قد تكون الأهم منذ الحرب العالمية الثانية، وتجربة أميركا مع فرنسا، وخصوصا في ملفات كإيران، وتجربتها مع ألمانيا في ملفٍّ كالغاز الروسي، ساهمت في دفع أميركا نحو بناء ذراع عسكري جديد، مختلفٍ من حيث النطاق الجغرافي، ومن حيث القيم التي تحكمه أيضًا، والصراخ الذي لا يتوقف من عواصم أوروبية يشير إلى لحظة تاريخية سيكون لها ما بعدها، ربما لسنوات مقبلة، وأمام "التحالف الإنجلوسكسوني" لحظة تاريخية لمنافسة حلف الناتو عبر تحقيق هدف مزدوج: احتواء اليابان داخله، ودفع أوروبا إلى الابتعاد عن الصين.