"كذبك حلو"

"كذبك حلو"

28 مارس 2021

ميادة بسيليس .. اشتهرت أغنيتها "كذبك حلو"

+ الخط -

سنمجّد الكذب امتثالًا لوصية ميادة بسيليس في أغنيتها "كذبك حلو". وسنكذب خبر موتها لنحتمل غيابها، حتّى لو كان ضريحها شاهدًا على "أكبر كذبة صدّقناها في حياتنا". أليس الفنّ، في آخر المطاف، معادلًا موضوعيًّا لواقع لا نقوى على العيش فيه؟ وقبلها كانت سفيرة النجوم فيروز قد أقنعتنا بالكذب الجميل، عندما صدحت: "تع ولا تيجي.. واكذب عليّ.. الكذبة مش خطيّة"، وكأنها تقدّم لنا ساعةً لا تتقدّم عقاربها كلما تأخر الحبيب، حتى لو انتظرناه الدهر كله. والحقّ أنه يليق بها أن تسمّى "ساعة فيروز" التي لا يرتديها غير العاشقين.

هي ثلة من الأغاني التي استقرّت في نسغ الوجدان العربي، وغدت ملاذًا آمنًا نهرب إليه من عواصف الصدق التي تطاردنا في المفازات الكاوية، فلماذا يستكثر الموت علينا أصحاب هذه الأصوات التي تقينا وحشة الطريق؟ أغلب الظن أن الموت لم يطلب هؤلاء "الكذبة" بقدر ما طلبوه هم أنفسهم، هربًا من تفسيرنا الخاطئ لمقاصدهم، فآخر ما توقعوه أن يجري خلطٌ فجّ بين الكذب العاطفيّ والكذب السياسي، فينسحب الأول على الثاني. فما زلنا مؤمنين بمقولة العرب القدماء "أصدق الشعر أكذبه"، واستطالت المقولة في العقل العربي الانتقائي، لتغدو "أصدق الفن أكذبه"، ولاحقًا "أصدق السياسة أكذبها".

بمثل هذه العقلية، دخلنا القرن الماضي، وبمثلها نواصل القرن الجديد. وكلما ضربتنا انتكاسة، لذنا بـ"الكذب الحلو" لنجمّل أيامنا، وغدا المحبوب رديفًا للسياسي "المحبوب" الذي لا يكذبنا موعدًا ولا وعدًا. عند كلّ خذلان وإخلاف وعد، كنا نتحصّن بساعة فيروز التي تسوّر معاصمنا، على قاعدة أن "أصدق الزعماء أكذبهم"، فصدقنا من كان يعدنا منهم بتحرير فلسطين. وكلما تأخر الوعد حدّقنا في الساعة إياها، لنكتشف أنه لم يحن بعد. حدث ذلك، ونحن نستمع إلى الخطب الحماسية التي كانت تقذفها براكين الغضب من حناجر جنرالات الانقلابات العسكرية الذين زينوا فوهات دباباتهم بشعارات التحرير، ثمّ استدارت الفوهات إلى صدور شعوبهم، عندما حاولت أن تقرن التحرير بالحرية، لكن أحدًا لم يكن مستعدًّا لتكذيب زعماء "صادقين"، لم يكن همّهم غير الاستئثار بالعروش والمناصب. ولم نكن نسمح لأنفسنا بتكذيب الهراوات والسياط والزنازين؛ لأنها أدواتٌ ضروريةٌ لتجميل الكذب؛ خصوصًا عندما تلهب أجساد "أعداء الوطن" من المعارضين "الكذبة"، كما زيّن لنا زعماؤنا الذين لا نشكّ بصدقهم.

رافقتنا ساعة فيروز في كل محطاتنا السياسية والاجتماعية، وجدولنا أزمنتنا وفقها، فالحرية التي كنا نوعَد بها تجيء كذبًا لا صدقًا، فكّذبنا الصدق وصدقنا الكذب.. والعدالة التي قضمتها أنياب الظلم والاستبداد ستقرع الأبواب بعد دقائق، وثمار "السلام" ستتساقط من أشجار زرعها اللاهثون لتقبيل أيادي الغزاة بعد قليل؛ فما انتُزع بالقوة قد يُردّ بالتطبيع، والفجوة الحضارية التي قيل إنها ستردم منذ قرنين لم تزل موشكة على الانتهاء، ورقعة الفقر التي أصبحت جغرافيا عربية كاملة الحدود ستنحسر بـ"الكذب الحلو" أيضًا.

انسحبت ميادة بسليس إلى ضريحها "الصادق"، عندما أدركت أن معجبيها لم ينتقوا من "أجراس بيت لحم" جرسًا واحدًا، بل اكتفوا بكذبتها الحلوة، وانكفأت فيروز التي ألقت ساعتها عندما اكتشفت أن جماهيرها الغفيرة لم تلتقط من "غضبها الساطع" إلا كذبة "العقارب" التي لن تلتحم أبدًا على أي موعد، والتي لم تزل لا تستطيع النوم إلا على كذبة "طير الحمام" المذبوح .. أملًا منهما أن يتخلّص العرب من طوفان الأكاذيب التي تغمرهم، ويلوذون بها لوذ المصدّق المؤمّن الباصم على كلّ ما تجود به قرائح ساستهم، علّهم يفرّقون يومًا بين حبيب حقيقيّ حاضر حتى في الغياب، وسياسيّ غائب حتى في الحضور.

EA8A09C8-5AE7-4E62-849E-5EBF1732C5FF
باسل طلوزي

كاتب وصحافي فلسطيني. يقول: أكتب في "العربي الجديد" مقالاً ساخراً في زاوية (أبيض وأسود). أحاول فيه تسليط الضوء على العلاقة المأزومة بين السلطة العربية الاستبدادية عموما والشعب، من خلال شخصيتين رئيسيتين، هما (الزعيم) والمواطن البسيط (فرج). وفي كل مقال، ثمة ومضة من تفاصيل هذه العلاقة، ومحاولة الخروج بعبرة.