"سمفونية" كمال أبو ديب

"سمفونية" كمال أبو ديب

18 مارس 2022
+ الخط -

أما وأن الذكرى هي لثورة السوريين الذين هبّوا قبل أحد عشر عاما من أجل الخلاص من نظام الاستبداد والفساد، فإنها مناسبةٌ للقول إن في الوسع أن يُتحدَّثَ عن "أدب الثورة السورية"، فقد صارت غزيرةً النصوصُ الشعريةُ والروائيةُ والأعمالُ السينمائيةُ والمسرحيةُ، السورية، التي اختارت فضاء هذه الثورة مساحاتٍ لها. وليس تعسّفا أن تُدرَج نصوصٌ كتبها أصحابها من موقعٍ مضادّ، بل وموالٍ أيضا، ضمن هذا الأدب الذي فيه، بداهةً، سمينٌ وغثّ. ومن بين السمين، وله موقعه في هذه الموضوعة، ثمّة العمل الشعري العالي "سمفونية سوريا" للناقد السوري ثقيل الاعتبار، كمال أبو ديب، وقد صدر في 2015 (دار فضاءات للنشر والتوزيع، عمّان. أوركس للنشر، أكسفورد)، ولم تتناوله قراءاتٌ ومطالعاتٌ نقديةٌ وصحافية (باستثناء وقفةٍ للشاعر عمر شبانة) بما يستحقّ من اهتمامٍ وإضاءة. وليس مقصد هذه السطور أن تفعل شيئا من التناول الغائب، وإنما هو التذكير بما صنعه معلّمنا، نحن طلاب جامعة اليرموك في الأردن في النصف الأول من الثمانينيات، في عملٍ شعريّ على بعض الفرادة من حيث البناء والتقاطيع والأنفاس والارتحالات إلى التاريخ والبعيد والأسطوري والقديم من موقع راهن سورية، وهي "مسربلةٌ بنجيع الضحايا/ مضمّخةٌ بأنين الموتى". اختار أستاذ النقد في أكسفورد لعملِه هذا اسم "سمفونية"، من تسع حركات وأخرى أخيرة، كأنه لا يريدها عاشرة، والعدد التاسع موصوفٌ، عادةً، بأنه إيذانٌ بميلاد، غير أن لا ميلاد في الحركة الأخيرة التي تسأل حفيدةٌ جدّها أن يقرأ لها القصيدة، ليسأل من بين ما سأل "كيف أرسم بالكلمات ما قد يتكدّس في هذا الذهن من مذابح ومجازر وحرائق وفظائع". تسأل: "أين هي سوريا؟ هل ستأخذني إليها؟" يجيب: "لم أعد أعرف يا حبيبتي، لا أعرف/ لكن ذات يوم/ ستعرفين أنتِ./ أنتِ ستعرفين".

هذه قفلة النص الطويل، الأوركسترالي، بعد أن جال في سورية وزَها بما أعطتْ، بما كانته، هي "سوريا/ قرونا أطعمتِ الجياع، وكسوْتِ العراة/ ومنحتِ ملاذا للمشرّدين/ وبرّأتِ جراح المنهكين/ قرونا رسمتِ للخلق مثال الخلق/ وللإبداع مثال الإبداع". وذلك كله وغيره مما تألّق كمال أبو ديب في تغزّلٍّ يضجّ بحبِّ سورية، باقترانٍ مع روحها، في تداعٍ صاخبٍ، وآخر خافتٍ، هادئ. وفي الأثناء، نرى حال سورية وقد فعل بها ما فعله غُزاةٌ، بداةٌ أجلافٌ، و"من يتناكحون جهادا ويجاهدون نكاحا". والشاعر، المتكلّم المفرد في حركات السمفونية، المطلّ بأناه، هو الرائي، على ما ينادي سورية، يرى هؤلاء، يقول "..، وإني لأراهم على بواباتك السبع/ الوحوش السبعة/ الذين رآهم يوحنا السوري/ فأجفلَ واختلت الرؤيا بين عينيه". يتكرّر في مقاطع السمفونية، ومتوالياتها المتتابعة، ما نقع فيه على حربٍ من الصحراء على سورية التي يُفتتح كتاب السمفونية بمخاطبتها "جميلةٌ أنتِ، جميلةٌ ومترفةٌ كالجنائن المعلقةِ بخيوط الإبريز"، وثمّة من "يجزّون الرؤوس جهادا/ ويدمّرون صروح الحضارة/ ليقيموا صروحا من الرمال وسعف النخيل/ جهادا". يقول "سوريا/ إن للصحراء لثأرا قديما منك". و"إنهم يا سوريا/ من أجل مجد السماء/ يهدمون مجد الأرض/ ومن أجل فردوس السماء/ يذبحون جنّة الأرض".

لقارئٍ أريب، أو ناقدٍ مجدّ، أن يأخذ على هذه الانتقاءات (ثمّة الوفير مثلها) أنها منتقاةُ بغرضٍ ما. وهو محقّ. أما الغرضُ فالأوْلى، قبل كشفه، الجهرُ بأن الجماليات المتعدّدة في النص تتأتّى من التوتر الظاهر فيه، ومن اندفاعاته بنثرٍ يتواشج مع صور شعريةٍ تتكثّف فيها المعاني والدلالات والمغازي. ويعلم صاحب هذه الكلمات أن كلاما عن الغرض هنا ليس من النقد في شيء، وإنما هي إحالةٌ إلى الأفكار. وهنا، لا بأس من أن يتذكّر واحدُنا أن صاحب "جدلية الخفاء والتجلّي" كتب في العامين الأوّليْن للثورة (لم يسمّها ثورة) مقالتين أو ثلاثا، بسط فيها قناعتَه بالذي عبرَ فيه وإليه بلدُه سورية، كان صادما أنه لم يأت فيها على مسؤولية الطاغية الحاكم في دمشق. وهنا، في الشعر، لا في المقالة الصحافية، يحضُرون كلهم، الغزاة أولئك، بُداة الصحارى الأجلاف، وتجّار النفط (يكتب مترجم "الاستشراق" عنهم بلغة مستشرقين!)، وأوباما، و"بنو عثمان". أما الطاغية فيحضُر لمّا يريد من يتذابحون حول " .. لون بشرة الملائكة وإخفاء اللحى وعصمة الأئمة" استبدالَه بالطواغيت (كذا)، وإنْ يهتف أطفالٌ في جوقةٍ للحرية، وإنْ ثمّة من هتفوا باسم الخبز، غير أن أستاذَنا، لمّا سمّى الثورات العربية في 2011 "الهيجانات العربية"، خاف حينها على سورية من حربٍ أهلية. وبقي يتصوّر الجاري حربا طائفية، يراه كذلك في "سمفونية سورية"، ولا يرى الطاغيةَ بحدقةٍ أوسع لعين الرائي.

358705DE-EDC9-4CED-A9C8-050C13BD6EE1
معن البياري
كاتب وصحفي من الأردن، مواليد 1965. رئيس قسم الرأي في "العربي الجديد".