"ديجا فو" مصرية

"ديجا فو" مصرية

10 أكتوبر 2020
+ الخط -

مع انتهاء ما سمّيت "إنتخابات مجلس الشيوخ" في مصر، أعلنت اللجنة العليا المشرفة على الإنتخابات، إحالة من لم يذهبوا إلى الإنتخابات إلى النيابة العامة، لتغريمهم مبلغ 500 جنيه مصري بسبب مقاطعتهم. للوهلة الأولى، تصوّرت أنني مصابٌ بظاهرة "ديجا فو" التي تعني أن الشخص يتصوّر أنه قد مرّ بالتجربة نفسها من قبل، أو شعر بالشعور نفسه، أو قابل الشخص نفسه قبل ذلك، ولكني تأكدت من أنني لم أصب بشيء، وأن هذا الخبر تكرّر بالفعل في انتخاباتٍ في مصر منذ سنوات بالسيناريو نفسه. ودائما ما يتضمّن تهديدات يطلقها إعلاميو النظام لمن يقاطع الإنتخابات، بعرض إجبارهم على الذهاب والإدلاء بأصواتهم، ويظل هؤلاء يلوكون الأمر عدة أيام، ويستضيفون الخبراء والقضاة للتعليق والتأكيد، ثم لا يحدث شيء بالمرّة، وكأن شيئا لم يكن. الطريف أن تلك الإعلانات تثبت بوضوح أن المقاطعين هم النسبة الساحقة من المصريين، على الرغم من المحاولات الإعلامية تصوير الإنتخابات أنها شهدت إقبالا تاريخيا منقطع النظير، لتأتي أرقام المقاطعة لتثبت العكس تماما، فقد وصل عددهم، على سبيل المثال، في آخر انتخابات إلى 54 مليون مواطن.

أكد خبراء عسكريون أن موعد "إعلان سيناء خالية من الإرهاب" بات قريبا، لكنهم لم يحدّدوا موعدا، ويبدو أنهم تعلّموا من الدروس السابقة، عندما حدّدوا مواعيد لم تثبت صحتها! 

أيضا تشهد الانتخابات في مصر مظاهر ومشاهد أخرى أيضا تتكرّر بالحرف، وكأننا أمام كاتب السيناريو نفسه، مثل مشهد العروسيْن اللذين يحضران بملابس الزفاف للإدلاء بصوتيهما تلبية لنداء الوطن، والعجوز الذي يذهب إلى اللجنة الإنتخابية في سيارة إسعاف على الرغم من حالته الصحية، وعجوز آخر يأتي في مقعد متحرّك، وثالث يتم حمْله على أكتاف الجنود الذين يحرسون اللجان، في مشهد دعائي مزدوج للإنتخابات وللشرطة في الوقت نفسه! 

لكن المؤكّد أن هذه الظاهرة لا تقتصر في مصر على المواسم الانتخابية، لأننا نجدها في مجالات أخرى كثيرة، مثل الوعود المتكرّرة بالقضاء على الإرهاب في سيناء، ففي عام 2013، بشّرتنا صحيفة الأهرام بخبر مفاده "إعلان مصر خالية من الإرهاب خلال أيام". وفي سبتمبر/ أيلول 2016، بشرنا مصدر عسكري بـ"إعلان سيناء خالية من الإرهاب مطلع 2017". وفي منتصف عام 2018، أكّدت صحيفة البوابة نيوز أن "الإرهاب يلفظ أنفاسه الأخيرة في سيناء". وفي سبتمبر/ أيلول من العام نفسه، توقع وزير خارجية مصر الأسبق والنائب البرلماني محمد العرابي "إعلان سيناء خالية من الإرهاب قريباً". وفي نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، أكد خبراء عسكريون أن موعد "إعلان سيناء خالية من الإرهاب" بات قريبا، لكنهم لم يحدّدوا موعدا لذلك الإعلان المرتقب، ويبدو أنهم تعلّموا من الدروس السابقة، عندما حدّدوا مواعيد لم تثبت صحّتها! 

حديث متكرّر عن المنطقة الصناعية الروسية في منطقة قناة السويس، وتأكيدات عن قرب تشغيل محطة الضبعة النووية التي لم تشهد تقدّما يذكر منذ توقيع الإتفاق عام 2017!

إعلان آخر يشهد الظاهرة نفسها، "إعلان مصر خالية من العشوائيات"، فعلى مدار سنوات، احتفظت بتصريحات عديدة متناقضة لمسؤولين، وأحيانا للمسؤول نفسه، حول ذلك الموعد المزعوم، مثل مدير صندوق تطوير العشوائيات الذي أكّد أن مصر ستكون خالية من العشوائيات نهاية عام 2018، وهو نفسه ما قاله المتحدّث باسم وزارة الإسكان في ذلك الوقت، لكن مدير صندوق تطوير العشوائيات غيّر الموعد لاحقا إلى بداية عام 2019، ثم عاد وأكد أن هذا الموعد سارٍ ولن يتغير، لتمرّ الأيام ويأتي العام الحالي الذي يعتبر الأكثر عبثية في هذا الصدد، فقد أعلن المسؤول نفسه أن مصر ستكون خاليةً من العشوائيات بحلول عام 2020، ثم تراجع وحدّد منتصف العام موعدا لذلك. وفي تصريح ثالث قال إن اللحظة الموعودة آتية في الربع الأخير من العام. وأخيرا أكّد أن الموعد المنتظر سيكون نهاية العام! والطريف أن وسائل الإعلام تعتبر أن تصريحات هذا المسؤول مهمة، وتبرز تلك المواعيد باعتبارها أهم ما قاله، من دون أن تنتبه إلى تكرارها على مدار السنوات من دون تغيير، ويبدو أنهم تصوّروا أن الأمر لا يعدو أن يكون ظاهرة "ديجا فو" مرّوا بها، وأن المسؤول لم يقل ذلك من قبل!

زيارات عبد الفتاح السيسي المتكرّرة إلى روسيا مثلا، تشهد كذلك التغطيات نفسها من وسائل الإعلام المصرية التي تؤكد دائما أنها تناولت مسألة عودة الرحلات الجوية بين البلدين بعد سنواتٍ من وقفها نتيجة سقوط الطائرة الروسية فوق سيناء عام 2015، وهو خبر نشره الإعلام المصري مرارا طوال السنوات الماضية، وثبت كل مرّة عدم صحته، بالإضافة إلى مناقشة صفقات سلاح روسية مزعومة لمصر، لا تتم أبدا، ويتم نفيها كل مرّة من الجانب الروسي، وكذلك حديث متكرّر عن المنطقة الصناعية الروسية في منطقة قناة السويس، وتأكيدات عن قرب تشغيل محطة الضبعة النووية التي لم تشهد تقدّما يذكر منذ توقيع الاتفاق بهذا الشأن بين الجانبين عام 2017، وكانت وسائل الإعلام المصرية تبشر به منذ سبع سنوات تقريبا.

وعود ومُدد متكرّرة يطلبها السيسي من المصريين حتى يشعروا بالتغيير والتقدّم

وفي المجال الإقتصادي، نجد ظاهرة متكرّرة كل عام، عندما يتم الإعلان عن الموازنة العامة للدولة، إذ يحتفي بها المسؤولون وترحّب بها وسائل الإعلام، وتصفها في كل عام بأنها "أكبر موازنة في تاريخ البلاد"، وهو وصفٌ متكرّر بصورة حرفية منذ سنوات، من دون أن يشير هؤلاء إلى أن سبب ذلك يعود إلى التضخّم وتعويم العملة الذي أدّى إلى فقدان الجنيه أكثر من نصف قيمته. وبالتالي، كان لابد من زيادة النفقات لتعويض تلك الخسارة، بالإضافة إلى تزايد الديون، وما تستحقه من فوائد وأقساط، الأمر الذي يجعل من بند الديون وفوائدها وأقساطها يشكل وحده نحو نصف الموازنة "الأكبر في تاريخ مصر"!

ولا تنفصل تلك الظاهرة بالطبع عن التجلّي الأكبر لها، والمتمثل في الوعود والمُدد المتكرّرة التي يطلبها السيسي من المصريين حتى يشعروا بالتغيير والتقدّم، وكان جديدها وعده المواطنين بأنه سيريهم دولة مختلفة تماما في يونيو/ حزيران 2020، وجاء الموعد من دون أن يرى المصريون شيئا. ومن يبحث عن مثل تلك الوعود سيجد عشرات، مثل قوله في يونيو/ حزيران 2015 "سنتين كمان وهتستغربوا مصر بقت كده إزاي" وطلبه مهلة ستة أشهر نهاية عام 2016 لتحقيق الإستقرار الإقتصادي، وتأكيده عام 2018 أن مصر ستكون "في منطقة أخرى" خلال عامين، وغيرها عشرات من الوعود الزمنية. ويبدو أن السيسي وجد أن تلك المدد قصيرة، فبدأ في إطلاق وعود بعد عقود، حتى يتنصّل من المسؤولية عنها، فقال عام 2016 إن الديمقراطية ستتحقق خلال 20 أو 25 عاما! ويبدو أن تلك المدة هي الوحيدة التي ستصدُق فيها توقعات السيسي مع الأسف.

D90F1793-D016-4B7E-BED2-DFF867B73856
أسامة الرشيدي

صحفي وكاتب مصري، شارك في إنجاز أفلام وحلقات وثائقية عن قضايا مصرية وعربية، وكتب دراسات ومقالات نشرت في مجلات ومواقع إلكترونية.