"المُثَقَّفُ الخائن"

"المُثَقَّفُ الخائن"

26 مارس 2021
+ الخط -

بعيداً عن الخوض في التعاريف والمفاهيم لمصطلحي "الثقافة" و"المثقف"، فإن ظاهرة "المُثَقَّفِ الخائن" تحتاج وقفة حقيقية، ومنهجية واضحة في التعامل معها. تلك الفئة المحسوبة عَسَفاً على فضاء الثقافة والمثقفين، ممن تمالئ الطغيان والأنظمة القمعية وتبرّر لهم، ينبغي أن يتم لفظها وعدم التعامل معها باحترام. إنهم سحرة فرعون الذين لا يقلّون عنه إجراماً، سواء أكانوا يتلفعون بعباءة الدين أم الحداثة أم النخبة. ولأننا في زمن ابتذال المصطلحات والمفاهيم، كـ"العالم" و"المفكر" و"الفقيه" و"الفيلسوف" و"الإعلامي" و"السياسي".. إلخ، فإن مفهوم "المثقف" اليوم لا يقل ابتذالاً في أذهان العامة. بالنسبة لكثيرين، كل حامل شهادة جامعية "مثقف"، وكل كاتب مقالة "مثقف"، بل إن مهرّجي وسائل التواصل الاجتماعي يتم التعاطي معهم على أنهم "مثقفون". من ثمَّ، فإن التحذير من تلك النوعيات بينهم التي تُسَخِّرُ هذه الصفة أو هذا اللقب للاسترزاق على حساب شعوبهم وضد مصالحها، بالتملّق للحاكم والنظام، يغدو من مهمات المثقف الحقيقي، أو من يصفه الفيلسوف الفرنسي، جان بول سارتر، "المثقف الملتزم"، والذي ينشد الحرية بوصفها قيمة عليا، وهو مستعد لدفع ثمن ذلك، من باب مسؤوليته مثقفا أصيلا.

إذا كان الخوف من القمع سبب التزام الناس الصمت طلباً للسلامة، فإن تزييف الحقائق ومحاولة تشويه وعيِ العوام هما الخيانة بحد ذاتها

دافع هذه السطور مقالة قرأتها لشخص يحمل أعلى الشهادات الأكاديمية، ويعمل في جامعات ومراكز دراسات عربية، وينشر مقالات أسبوعية. هو من الطراز الذي تقرّع مقالاته، في العادة، الدوغمائيين والإيديولوجيين. وإذا جلست إليه، أو قرأت له، فإنه حريص على أن يعطيك انطباعاً باختزانه الحداثة والليبرالية والرصانة العلمية. ولكن ما أن وقعت كارثة إنسانية في بلاده، أُزهقت بسببها أرواح أبرياء، وجذرها الأساس الفساد والمحسوبية، لا القضاء والقدر، حتى نشر مقالةً تطفح بالنفاق والتزلّف للزعيم الذي يُخْذُلُهُ من حوله، في حين أنه هو منزّه عن الخطأ وعن الظلم والفساد! للأسف، ليس هذا الشخص حالة معزولة، بل هو جزء من ظاهرة واسعة، ممن يملكون مستوى من التردّي الأخلاقي لا يُضاهى، وقدرةً وضيعةً على التواطؤ ضد الذات، بحيث يبرئون ساحة المجرم الأكبر من جريمته، ويلصقونها بمن حوله من صغار أعوانه الذين اختارهم بنفسه بناء على معايير شرّيرة فاسدة. ولا يتوقف تزلّف "المثقف الخائن" عند تنزيه الطاغية، بل إنه قد يتطرّف، إلى حد تحميل الضحية نفسها مسؤولية الإهمال وصنع مآسيها!

"المثقف الخائن" لا يقل سوءاً وشرّاً عن الطاغية وأجهزته الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، بل قد يكون أكثر خطراً

تجد نوعية بين أدعياء الثقافة وخونتها، ممن يزعمون إيمانهم المطلق بحرية الرأي والتعبير والحريات الشخصية في العقائد والأخلاق والاختيارات، وهم لا يتردّدون في نقد الدين أو منظومات القِيَمِ، بل وحتى التجاوز مع الله جلَّ جلاله ذاته، ورسوله الكريم، في الخطاب. ولكن، عندما يأتي الأمر إلى انتقاد صاحب هيلمان السلطة والسلطان والمسّ بمقامه، تراهم ينتفضون "غيرة" على أخلاق مُضَيَّعَةٍ، وتُنكر للجميل، وتصبح حرية التعبير والرأي قلة أدبٍ وتجاوز حيث يحظر ذلك! وقد تنبه المفكر السوري/ العربي، وأحد رواد التحذير من خطر الاستبداد على نهوض الأمم، عبد الرحمن الكواكبي، إلى خطر هؤلاء قبل أكثر من مائة وعشرين عاماً، وضمن ذلك في كتابه "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد". من يصفهم "المُتَمَجِّدينَ"، أي طالبي القرب من المُسْتَبِدِّ، لا يعدون أن يكونوا "سماسرة" يتخذهم المستبد "لتغرير الأمة باسم خدمة الدين، أو حب الوطن، أو توسيع المملكة، أو تحصيل منافع عامة، أو مسؤولية الدولة، أو الدفاع عن الاستقلال. والحقيقة أن كل هذه الدواعي، فخيمة العنوان في الأسماع والأذهان، ما هي إلا تخيل وإيهام يَقْصِدُ بها رجال الحكومة تهييج الأمة وتضليلها". ويخلص الكواكبي إلى أن المُتَمَجِّدينَ "أعداء للعدل أنصارا للجور، لا دين ولا وجدان ولا شرف ولا رحمة (عندهم)، وهذا ما يقصده المستبد من إيجادهم والإكثار منهم ليتمكّن بواسطتهم من أن يغرّر الأمة على إضرار نفسها تحت اسم منفعتها". ويؤكد الكواكبي، محقاً، قاعدة مفادها بأن "الاستبداد أصل لكل فساد".

باختصار، "المثقف الخائن" لا يقل سوءاً وشرّاً عن الطاغية وأجهزته الأمنية والاستخباراتية والعسكرية، بل قد يكون أكثر خطراً. إذا كان الخوف من القمع سبب التزام الناس الصمت طلباً للسلامة، فإن تزييف الحقائق ومحاولة تشويه وعيِ العوام هما الخيانة بحد ذاتها، ذلك أن مدى تخريبهما يشمل أجيالاً قادمة. من ثمَّ، لم يكن عبثاً تحذير المفكر الفلسطيني الراحل، إدوارد سعيد، من اقتراب المثقف من السلطة، ذلك أن منظومة القيم معرّضة للانهيار حينها. هذا ما نراه اليوم في كثيرين من ادعياء الثقافة، وأصحابها حقاً، ولكن من الخائنين لها.