"الدولة" لدى إسلاميي الحكومة في المغرب

"الدولة" لدى إسلاميي الحكومة في المغرب

26 ابريل 2021
+ الخط -

يشيع توزيع أحزاب اليسار وحركاته في المغرب إلى يسار حكومي وآخر غير حكومي. غير أن إسقاط هذا التوزيع على "الإسلام" يبدو غير دقيق لاعتباراتٍ كثيرة، وإنْ كان القصد التمييز بين أحزاب الإسلام السياسي وحركاته. بدل ذلك، يمكن التوزيع على أساس وجود إسلاميين داخل الحكومة، وإسلاميين آخرين خارجها. وفي سياق ذلك، يمكن الإشارة إلى أن مشاركة جهةٍ إسلاميةٍ في الحكومة، مقابل جهاتٍ أخرى ترفض "اللعبة السياسية" الحالية برمتها، ينطوي على فارقٍ كبير في الشكل والمضمون، بالمقارنة مع ألوان الطيف اليساري المتعدّدة. إن كان من الضروري الاحتفاظ بمركزية الإسلام، في سياق التوزيع المعروض، فيمكن الحديث عن: الإسلام المُشارك في مقابل الإسلام غير المُشارك.
يُدرج باحثون المشاركة السياسية للإسلاميين، بالإحالة إلى حلمهم الجمعي بدولة الخلافة، في خانة البراغماتية السياسية، غير أن الوضع القائم، في ما يتعلق بتزعُّم حزب العدالة والتنمية الأغلبية الحكومية، منذ ما بعد انتخابات 2011، جعلهم مجرّد مشاركين في الحكومة، لا مشاركين في الحكم. إن جزءا من خطاب هذا الحزب ومبادراته، وبخاصة بعد أحداث 16 مايو/ أيار 2003 الإرهابية، استُهلك في السعي إلى نيل رضى الدولة العميقة وثقتها ("المخزن" بلغة المغاربة). وحتى بعد الخروج من الحكومة، ظل رئيس الحكومة السابق، عبد الإله بنكيران، يؤكد أن "الملك هو من يُسيّر البلاد والحكومة فقط عنصر مساعد". من جهة أخرى، فإن "الدولة الإسلامية"، وإنْ في سياق الإشارة إلى الدين الرسمي لعموم المغاربة، لا ترد إلا مرتبطةً دلاليا بالملكية، الدستورية، البرلمانية، الديمقراطية... إلخ.

إذا كانت للدولة الكلمة العليا على الجميع، على الرغم من صعوبة تصور الدولة المدنية الحديثة خارج إطار الأحزاب، فلماذا تشتد الحاجة إلى المؤسسات الحزبية؟

يُعرف "العدالة والتنمية" بكونه حزبا إصلاحيا، من مُنطلق رهانه على "الإصلاح من خلال المؤسسات" (كما جاء في إحدى الوثائق المهمة الصادرة عن المؤتمر السابع). الإصلاح "من خلال"، أو "من داخل" كما كان يتردّد لدى يساريي الحركة الوطنية، يحمل فروقا وإنْ بسيطة، إلا أن إصلاح المؤسسات ذاتها، الكفيلة بتحقيق الإصلاح المنشود، يعتبر مطلبا أكبر مما يساعد به السياق الحالي، أو مطلبا تجاوزته البراغماتية الإسلامية الآخذة في الازدياد.
هل عاد "العدالة والتنمية" حزبا محافظا أكثر منه إسلاميا؟ هل قوة دولة "المخزن"، وعبر مسار من الترويض الحكومي، أرغمت الحزب على تغيير كثير من "معتقداته"؟ الجواب الشافي عن هذا السؤال ينبغي التماسه في تصريحات وزراء الحزب، لا في وثائق مؤتمراته وأطروحاته. هناك مسافة التباسٍ بين الحزب والدولة، خارج الفكرة العامة التي تجعل الدولة فوق الأحزاب. إذاً، ما هي الدولة، إذا لم تكن مؤسسة الحزب طرفا أصيلا فيها (إضافة إلى بقية الأحزاب)؟ ولماذا يتم اللجوء إلى النأي بالدولة، على أساس أنها "فوق الأحزاب"، بما تمليه على الأغلبية الحكومية من توجيهاتٍ وقرارات؟ ثم ما محل الشرعية الانتخابية، في ما يصطلح عليه التفويض الشعبي، لإحداث التغيير المطلوب، وإن مسّ جوانب من الدولة نفسها؟
حين نتأمّل تصريحات قيادات "العدالة والتنمية"، وفي مقدّمتها الصادرة عن بنكيران، وعلى غرار من سبقوهم في الأحزاب الأخرى أيضا، نستنتج أنها تجعل الدولة حزبا حاكما، يقرّر ما ينبغي اتّباعُه وتنفيذه من الأحزاب المُشاركة. وإذا كانت للدولة الكلمة العليا على الجميع، على الرغم من صعوبة تصور الدولة المدنية الحديثة خارج إطار الأحزاب، فلماذا تشتد الحاجة إلى المؤسسات الحزبية؟

أن تكون الدولة حزبا حاكما، يعلو على بقية الأحزاب، لا ينبغي أن يلتبس ذلك مع دولة الحزب من جهة، ومع حزب الدولة من جهة أخرى

في الدول الديمقراطية، يبدو طرح مثل هذا السؤال بغير معنى. ذلك أن العلاقة بين الحزب والدولة، تبعا لجدلية التأثر والتـأثير، ووفق قواعد ديمقراطية، تجعل مسار التفاعل واضحا وبناء بالنسبة إلى كليهما. بالفعل، الأحزاب قد تنتهي إلى الزوال، بينما تستمر الدولة في الوجود (إلا في حالات استثنائية معينة). ومع ذلك، ينبغي أن تدفعنا صوابية هذه "الفكرة"، التي لا يمكن الاختلاف حولها، إلى مثل هذا الاستدراك: في مقابل موت أحزاب، تولد أخرى باستمرار، أو يولد من رحمها فاعلون جدد (وجوه سياسية جديدة). وهكذا، تستمر الدولة بمؤسساتها الديمقراطية، في إطار ما يؤسّس للتداول السلمي على الحكم/ السلطة (أو التناوب حسب الاصطلاح السياسي المغربي).
أن تكون الدولة حزبا حاكما، يعلو على بقية الأحزاب، لا ينبغي أن يلتبس ذلك مع دولة الحزب من جهة، ومع حزب الدولة من جهة أخرى. الدولة/ الحزب هي التي تستدعي صيغة من الصيغتين. في دولة الحزب، نجد أنفسنا أمام التجارب الشيوعية، في الصين على سبيل المثال. أما في حالة حزب الدولة، فالأمر يتصل بما يسمّى حزب السلطة، كما كان مثاله في تونس، إبّان حكم الرئيس بن عليّ. بالنسبة للحالة المغربية، المعروف أنه كانت تجربة مع "جبهة الدفاع عن المؤسسات الدستورية"، خلال السنوات الأولى لما بعد الاستقلال. ونظير ما عاشته أحزاب الحركة الوطنية (الاستقلال والاتحاد الوطني للقوات الشعبية) مع "الجبهة"، خاض "العدالة والتنمية" صراعاته مع "الأصالة والمعاصرة" الذي نُظر إليه حزبَ السلطة.
تعني الدولة/ الحزب ما يسمى "الدولة العميقة"، فحتى لو لم يكن هناك حزب، بالمعنى المؤسساتي المعروف، فإن الأطراف المهيمنة على القرار في الدولة تتحرّك وكأنها منظمة في حزب مقابل الأحزاب الأخرى. هكذا، يمكن تصور "الدولة"، في تصريحاتٍ كثيرة، على أساس من بأيديهم القرار. لنضرب مثالا بجواب القيادي الوزير، عزيز الرباح، في أحد البرامج التلفزية المغربية، أخيرا، مُبديا استعداده لزيارة إسرائيل في لحظة حماس زائد. وعلى الرغم من طبيعة السؤال الافتراضية، فاجأ عضو الأمانة لحزب "المصباح" مُحازبيه، قبل المواطنين، باندفاعه ذاك، متذرّعا بتمثيليته للدولة من جهة كونه وزيرا. لننتبه إلى أنه لم يتحدّث عن تمثيليته الوطن (أو البلاد بصيغة عمومية)، ولم يتحدّث عن تمثيليته الشعب المغربي أيضا، بالنظر إلى الاستحقاقات الشعبية التي خوّلته المنصب الوزاري.

لم يكن في حساب أحد أن يوقّع سعد الدين العثماني اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، أو أن توافق حكومته على تقنين زراعة القنب الهندي، وتنظيم استخداماته

مؤكّد أن في إحالة الربّاح إلى الدولة التباس ما، بقصد أو بغير قصد. ولذلك، وجدنا رئيس اللجنة المركزية لشبيبة الحزب، حسن حمورو، يُبادر إلى الاستدراك على الوزير بالقول: "إذا كان يرى أن زيارته للكيان الصهيوني ستكون بصفته الوزارية، فإن هذه الصفة لم يكتسبها إلا بفضل الحزب، فضلا عن كون أصوات المواطنين كانت عاملا مهما في اكتسابه لهذه الصفة".
هل ترتدّ الدولة إلى الملك، باعتباره من بيده القرار الأول في المغرب؟ ألم يكن حريّا بالرباح الحديث عن تمثيليته الملك، من مُنطلق سلطة الأخير المباشرة على وزارة الخارجية؟ يبدو أن بنكيران كان أدقّ وأجرأ، في أحد لقاءاته مع أعضاء من شبيبة حزبه، حين قال: "المجال الديني منظّم بالقانون، وله رئيس هو أمير المؤمنين، ورئيس الحكومة يمكن أن ينبّه إلى بعض الأمور، لكن هذا المجال محفوظٌ لجلالة الملك، مثل وزارة الخارجية أو أكثر". ما أوضح هذا الكلام على لسان بنكيران، وما أغمضه على مُحازبه عزيز الرباح. ولكن ما اتضح لدى بنكيران بشأن مجالي الدين والخارجية، سيعود إلى الالتباس في مسألة أقلّ وزنا: منع الخمر. لقد أرجع بنكيران قرار منع الخمر إلى الدولة. إذاً، ما هي الدولة في هذه الحالة، إن لم تتجسّد في السلطة الحكومية، بالنسبة لقضية يمكن التداول فيها حكوميا؟
على الرغم من اتصال منع الخمر بالمجال الديني، المحفوظ للملك/ أمير المؤمنين تحديدا، إلا أن بنكيران فضّل الحديث عن الدولة هذه المرة (وخلال اللقاء ذاته مع شبيبته). وفي مفارقة أخرى، ألم يخرج بنكيران وإخوانه، ومعهم بقية الإسلاميين، احتجاجا على الخطة الوطنية لإدماج المرأة، التي لها أوثق الصلة بالمجال الديني، سنة 2002؟ هل كان خروجهم ذاك بذريعة حصوله في مرحلة "النضال الديمقراطي"، بخلاف ما هم عليه من انتقال إلى "البناء الديمقراطي" اليوم؟ يظهر أن لكل مرحلة خطابها، واعتباراتها، وذرائعها؟ ولذلك، لم يكن في حساب أحد أن يوقّع سعد الدين العثماني اتفاق التطبيع مع الكيان الصهيوني، أو أن توافق حكومته على تقنين زراعة القنب الهندي، وتنظيم استخداماته. لماذا لا يكون للحكومة القرار في القنب الهندي، وفي بالمقابل لا يكون لها القرار في منع الخمر (مثلا)؟

ترأس "العدالة والتنمية" تدبير الشأن العام، في مرحلةٍ من أصعب المراحل، التي عاشتها البلاد، بسبب توالي سنوات الجفاف، واندلاع حراك الريف

يسرّع "العدالة والتنمية" باتجاه أن يصير مجرد حزب محافظ، ذلك أن المُحاججة المستمرة بالمرجعية الإسلامية آخذة في إنهاكه، بالنظر إلى تناقضاتٍ تصيب بها خطابه وممارسته. الاشتغال تحت مظلة "المخزن"، وبمعية التكنوقراط، كانت كفيلةً بأن تنحدر به إلى هذا الدرك من نواح عدة: الابتعاد المتزايد عن مرجعيته، عدم الإيفاء بمعظم ما قطعه على الناخبين، وأخيرا ضرب "معنى" العمل السياسي في مقتل. ولولا العزوف السياسي، الآخذ في الاتساع بعد كل استحقاق انتخابي، لما كُتب للحزب ما هو عليه من حظوة سياسية اليوم. ما من شك في أن المشاركة الحكومية تنال من الأحزاب (أية أحزاب)، وبخاصة بالنسبة للحزب الأغلبي الذي يترأس الحكومة، منذ سنة 2012. ومثلما يقول مثل شائع، "الدخول إلى الحمّام ليس مثل خروجه". لقد ترأس الحزب تدبير (إدارة) الشأن العام، في مرحلةٍ من أصعب المراحل، التي عاشتها البلاد، بسبب توالي سنوات الجفاف، واندلاع حراك الريف، وأخيرا تفشّي وباء كورونا. وإن كان من شأن ذلك كله أن ينال من صلابة الحزب، إلا أن إكراهات "المخزن"، في أوجهه الظاهرة والخفية، ظلت الأكثر قساوة على الحزب "الإسلامي"، في بلوغ ما بلغه سلفُه "الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية" اليوم.