"البرتقالي هو الأسود الجديد"

"البرتقالي هو الأسود الجديد"

24 مايو 2021
+ الخط -

يتجلّى سحر مسلسل "البرتقالي هو الأسود الجديد" بمواسمه السبعة، والمقتبس من كتاب الأميركية، بيبير كيرمان، في أنّه يسرد أحداث تجربة حقيقية، عاشتها الكاتبة، وتناولت قصتها المريرة نزيلةً في سجنٍ للنساء، عندما قضت المحكمة بحبسها 15 شهراً، عقوبة على تورّطها في جريمة تهريب مخدرات، كان قد مضى عليها أكثر من عشر سنوات، من دون أن يُكتشف أمرها، وقد تم إلقاء القبض عليها، بعدما استقامت، وتجاوزت تلك المرحلة التي وصفتها بمرحلة الطيش والجنون، غير أنّ صديقتها السابقة التي ورّطتها أصلاً في ذلك النشاط الإجرامي وشت باسمها في المحكمة، ما أوقعها في براثن القانون.
اعتبر هذا المسلسل الاستثنائي الذي حقق أعلى نسب مشاهدات من أضخم العروض المميزة في تاريخ "نتفليكس" ونال تقديراً كثيراً، وتم ترشيحه لجوائز عديدة، كما حصل على جائزة "الايمي برايم تايم". وعلى الرغم من أنّ العمل الدرامي الملحمي البارع ضم أحداثاً وشخصياتٍ غير واردة في النص الأصلي، كما أفادت الكاتبة في أحد تصريحاتها، غير أنّه تمكّن من تسليط الضوء على الأوضاع الإنسانية في سجون النساء، كما عكس واقع المجتمع الأميركي المركّب والمعقد والموبوء بالعنصرية والفساد واضطهاد المرأة. أتاح المسلسل للمتلقي الوقوف على حقيقة ذلك المجتمع، وذلك من خلف جدران السجن العالية وزنازينه الضيقة وعنابره المكتظّة بالنساء القادمات من خلفياتٍ ثقافية متنوعة، المدانات بجرائم مختلفة، فكان السجن صورةً مصغرّةً، بالغة الدقة عن الواقع الفظ والمتوحش والقاسي.
احتوى المسلسل قصصاً إنسانية صادمة تناولت حياة كلّ سجينةٍ قدّمت بأسلوب شائقٍ رشيق ومؤثر، وهو نصّ منحاز إلى المرأة بالمطلق، باعتبارها الطرف الأضعف بالمعادلة. انقسم المجتمع النسائي في السجن، عرقياً ودينياً وسياسياً، ومارست السلطة أبشع أشكال القمع التي وصلت إلى حد الاغتصاب والعنف المفرط بحق السجينات، خصوصاً ممن ينتمين إلى الأقليات السوداء واللاتينية والعربية المسلمة على وجه الخصوص. ويبرز العمل مدى انغماس ممثلي السلطة في إدارة السجن في الفساد والانحراف والجريمة، ما يشكل إدانة للمنظومة القضائية الفاشلة التي من شأن سياساتها دفع السجينات إلى عالم الجريمة من جديد، عوضاً عن إعادة تأهيلهن، ليعدن مواطنات صالحات بعد انتهاء محكوميتهن. وعلى الرغم من فجاجة اللغة المستخدمة، وعنف المشاهد المتعلقة بقصص الجرائم المرتكبة، غير أنّ ثمة ملمحاً إنسانياً عميقاً في ثنايا العمل، لا سيما في طريقة تشكل العلاقات الإنسانية المعقدة والمتشابكة بين السجينات، ما جعل النص قادراً على التحكّم بمزاج (ومشاعر) المتلقي الحائر في تبني مواقف محدّدة تجاه الشخصيات التي تتطوّر سريعاً، بحسب الحدث الدرامي، فتتراوح مشاعره بين التعاطف الكبير والإدانة. تتصارع السجينات في ما بينهن، وتؤجّج السلطة هذه الصراعات، ويقيم الحرس الرهانات حولهن، في مشهد يختصر وحشية (ولاإنسانية) هؤلاء الذين يلهون بحيوات سجيناتهن، ويهيئون لهن أسباب الصراع على أتفه الأسباب، كما لو كنّ مجموعة ديكة حبيسة في قفص مكتظ. برعت الممثلات جميعهن في أداء أدوار مركبة صعبة، خصوصاً من مثّلن أدوار الشخصيات المضطربة نفسياً، فنجحن في إقناع المتلقي بصدق معاناة تلك الشخصيات المعذّبة، وعبّرن، بمهارة استثنائية، عن حالات الغضب والقهر والتمرّد والظلم والحبّ وخيبة الأمل والقوة والضعف، فاستحقّت بعضهن جوائز فنية رفيعة.
انتصر العمل لحقوق الأقليات، وكشف الغطاء عن مدى الفساد الذي ينخر المؤسسة، من خلال الجور والاضطهاد وانعدام ظروف العيش الكريم في حدّها الأدنى لتلك الفئات، من فرص عمل وتأمين صحّي وأمان معيشي، ما يدفعها إلى عالم الجريمة، كما تناول، بشكل مؤثر، قضية الهجرة غير الشرعية ومظاهر الذل والمهانة التي تتعرض لها تلك النساء الهاربات من البطش في بلادهن، الواهمات بإمكانية الخلاص، عبر الحلم الأميركي في أرض الفرص والثروات المدعوم بشعارات الحرية والعدالة والمساواة الزائفة.
مسلسل "البرتقالي هو الأسود الجديد" باهر ممتع مستوفٍ شروط الإبداع، لجهة تمكّنه من ملامسة الواقع، والكشف عنه بأكثر المفردات خشونةً، وهو عمل مذهل، بجماليات كثيرة، يستحق المشاهدة.

AD06A645-8A0A-4B42-9292-5FC44B5D51C6
بسمة النسور

كاتبة أردنية، تحمل الليسانس في الحقوق، صدر لها ست مجموعات قصصية، وكتبت نصين مسرحيين. تكتب في الصحافة العربية منذ 1990، وتشغل موقع رئيسة تحرير مجلة "تايكي" المتخصصة بالإبداع النسوي.