قدوتي إبراهيم نافع!

قدوتي إبراهيم نافع!

29 سبتمبر 2020
+ الخط -

قليل البخت يلاقي العضم في الكرشة. أما أنا فقد لاقيت إبراهيم نافع وسط مكتبة كبيرة عامرة بأهم الكتب، كلها كانت متاحة لي لأختار منها ما أشاء، لكنني اخترت إبراهيم نافع، فلا حول ولاقوة إلا بالله.

كانت الفرصة التي أضعتها قد سنحت لي بعد مائدة غداء عامرة عند أستاذي علاء الديب، ونحن ذاهبان لغسل أيدينا استغللت وقوع عم علاء تحت تأثير محشي الكرنب والرقاق والبتنجان الذي تصنعه زوجته الفاضلة بخلطة شيطانية، كنا نمشي ونحن نتسند على بعضنا من وعثاء الأكل المِسَبِّك، مررنا في ممر ضيق مفضي إلى دورة المياه به دولاب ضخم عامر بمئات الكتب التي تطلع عيني عليها كل مرة، انتهزت فرصة جمعي بين عم علاء ودولاب كتبه في فرصة قد لا تتكرر، قلت له محاولا إخفاء طمع نفسي "إنت رامي الكتب دي ليه هنا يا أستاذنا؟".

قال لي وهو يحاول التقاط أنفاسه: "دي الكتب اللي قريتها خلاص أو كتبت عنها ومش محتاج أحتفظ بيها"، كتمت صرخة فرحة بداخلي، لم يعد محتاجًا إليها، إذن بوسعي تقليب عم علاء كيفما شئت، قطع حبل طمعي بقوله "تحب تاخد منها حاجة؟"، أربكني العرض المفاجئ فلم أرد أن أظهر بمظهر الطمعان، فقلت متصنعا عدم اللامبالاة "لا.. يعني.. مش قوي.. مافيش وقت". لكنه لم يعطني الوقت الكافي لإتمام تحول درامي مدروس من عدم اللامبالاة إلى حمل ماثقل وزنه وغلا ثمنه من كتب الدولاب، وقال لي مثبتاً إن المحشي لا يمكن أن يؤثر بسهولة في عقل واع كعقله: " يعني خد كتاب واحد حتى"، كدت أقولها: "يا واعي يا عم علاء"، لكنني تفهمت مشاعر صاحب أشهر عصير للكتب.

من الصعب أن يتخلى أي مقتنٍ للكتب عن كتبه بسهولة، لذلك كتّر خيره أن سمح باقتناء كتاب واحد، علي أن أرضى بالمقسوم وأبدأ في احتلال هذا الركن من مكتبته شبرا شبرا، قلت له: "طيب أنا كل مرة أجي لك هاخد كتاب بشكل عشوائي وزي ماتيجي"، هز رأسه موافقاً، إذن فقد نجحت الخطة، أصبح من حقي أن آخذ كتابا في كل مرة، المرة الجاية هيبقوا كتابين، يعني كمان شهرين ثلاثة ستصبح هذه المكتبة ضمن ممتلكاتي العامرة، ضربت بعيني على الأرفف فخاب أملي، كثير من هذه الكتب لدي، وكثير منها رديء أضعت في قراءته وقتًا لم يكن له لازمة، كيف افترضت أن يؤثر المحشي في عقلٍ صاحٍ كعقل عم علاء، طبعا لابد أن يبعد كتبًا رديئة كهذه عن الكتب الزُبَد التي يحتفظ بها في المكتبة الموجودة في مكتبه والحافلة بالكتب النادرة والمهمة، طيب يالله، إضرب بيدك بين كتب هذا الرف "وزي ماتيجي تيجي".

خرجت يدي بكتاب قبل أن أنظر في غلافه، كان الأستاذ علاء غارقًا في الضحك، كانت شفتاه، أعني شفتا الأستاذ ابراهيم نافع تحتلان حيزًا لا بأس به من غلاف الكتاب الذي حمل لوحة زيتية رديئة لإبراهيم نافع ـ أعتقد أنها مرسومة بزبدة مش بزيت ـ وفوق الرسم جاء عنوان الكتاب (إبراهيم نافع القدوة)، في أسفل الرسم جاء اسم مرتكب تأليف الكتاب: دكتور محمد عبد العال، والذي لم أكن أعرف أنه موهوب في معرفة البشر إلى حد جعله يكتشف إبراهيم نافع مبكرًا جدا، فالكتاب صادر في مارس 1987 قبل سنوات طويلة من القبض على محمد عبد العال ودخوله السجن، وقبل سنوات طويلة أيضا من ظهور اسم إبراهيم نافع وصورته في صفحات الحوادث بدلاً من الصفحات الأولى.

زادتني الصور شموخًا على شموخي، فقررت أن أبدأ في قراءة الكتاب بجدية شديدة، تركت مؤخرة الكتاب وبدأت في الغوص فيه، لم أكن أعلم أنه ليس غويطاً فقد ارتطم رأسي بأسلوب كتابته الركيك فور أن غصت فيه

طيلة هذا الوقت الذي كنت أتصفح فيه غلاف الكتاب ومؤخرته، كنت أظن أن الأستاذ علاء يضحك ساخراً من حظي، فحاولت أن أبين له أنني "مش زعلان أبداً"، بل على العكس أعتبر حظي عاليًا جدًا، وأن ما يشغل بالي الآن هو التفكير فيما سيرسمه عمرو سليم لما سأكتبه عن هذا الكتاب، ثم اتضح أن الأستاذ علاء كان يضحك على شيء آخر تمامًا، فقد حكى لي أنه عندما جاءته نسختان من هذا الكتاب فور صدوره أملاً في أن يكتب عنه في بابه الشهير (عصير الكتب) الذي كان معلمًا من معالم مجلة (صباح الخير)، قام بقص غلاف الكتاب الذي يحتوي على اللوحة الزُبدية لنافع القدوة، وعلّقها على زجاج الشباك المواجه لمكتبه لكي ينظر إليه كل صباح قبل أن يكتب، فشاركته الضحك على ما قاله، لكن ضحكي انجرح حين مر طيف أبو الطيب المتنبي بيننا حاكيًا عن مضحكات مصر المبكيات.

عمل الأستاذ علاء ما عليه، حاول أن يكون له في إبراهيم نافع قدوة حسنة لكنه فشل، ولذلك ذهب ابراهيم نافع بما حمل من ملايين حلالاً بلالاً على قلبه، بينما تم منع الأستاذ علاء قبل ثلاث سنوات من الخروج من أحد المستشفيات، قبل أن يدفع مائة وثمانين ألف جنيه ثمنا لأخطاء أطباء المستشفى التي عالجت قلبه العليل، وفيما تحدثت الصحف عن ثروات طائلة حققها نجل الأستاذ نافع ببركة أبيه، لم يجن الأستاذ علاء سوى اعتداء قوات الأمن على ابنته سارة مراسلة الأسوشيتد برس في يوم الاستفتاء الأسود.

لم أرد تقليب المواجع الجاهزة عليه وعلي، قلت له "طيب يا أستاذ علاء إنت فشلت في الاقتداء لأنك قريت الكتاب بعد ما خدت طريقك في الحياة وخلاص بقيت روائي كبير ومثقف شريف وبتاع كتب وأفكار.. يعني عديت سن القدوة القانونية.. المفروض تدي الكتاب للشباب اللي زيي وزي ابنك أحمد عشان نعرف نستفاد بدل ما ترميه في مكان زي ده"، قال لي: "طيب كويس أهي جت من عند ربنا.. اقرأ واقتد وعلى الله تفلح".

لم يكن ممكنًا أن أبدأ في قراءة كتاب كهذا يثير الرهبة في النفس وأنا متخم بالأكل والضحك المبكي، كان لابد أن أستعد له جيدًا خاصة أنني راغب في الاستفادة بجد، فأنا في صحبة اثنين من أعلام مصر، إبراهيم نافع ومحمد عبد العال، وقررت أن تكون سهرتي في صحبة هذا الكتاب. فور عودتي إلى المنزل توضأت وصليت ركعتين ودعوت الله أن يعلمني ما ينفعني وينفعني بما سأتعلمه من تجربة نافع الشامخة التي قيض الله لها شامخًا آخر مثل محمد عبد العال ليرصدها، يعني الحكاية هتبقى "مَشمَخة" على الآخر.

لم أكن أقصد أن أقرأ كتابًا مهمًا كهذا من مؤخرته، لكن الظروف هي التي حكمت، فقد وقعت عيني على صور شامخة في نهاية الكتاب تظهر إبراهيم نافع في أوضاع حافلة بالود والمحبة مع عدد من قادة العالم في وقت صدور الكتاب على رأسهم طبعا الرئيس مبارك ومارجريت تاتشر وهيلموت كول وميتران وأنديرا غاندي وصدام حسين والملك حسين وياسر عرفات، وتشاء حكمة الله يامؤمن أن يرحل جميع هؤلاء عن الحكم أو الدنيا ويبقى الرئيس مبارك وإبراهيم نافع في قلوبنا وعيوننا فاللهم لك الحمد وأنت الذي لا يُحمد على المكروه سواك.

زادتني الصور شموخًا على شموخي، فقررت أن أبدأ في قراءة الكتاب بجدية شديدة، تركت مؤخرة الكتاب وبدأت في الغوص فيه، لم أكن أعلم أنه ليس غويطاً فقد ارتطم رأسي بأسلوب كتابته الركيك فور أن غصت فيه، بدأ "عبعال" كتابه بشرح واف للسبب الذي جعله يختار إبراهيم نافع ليكون بطل الكتاب الأول لسلسلة أعلام الصحافة العربية التي لا ندري من كان بطلها الثاني، لعله سمير رجب بالطبع، ولعلها فرصة سانحة لأن ندعو لاستئنافها في هذه الأيام فنحن بحاجة ماسة لكتب تقدم للناشئة والشباب أعلامًا مثل ممتاز القط ومحمد علي إبراهيم وعبد الله كمال.

لست محتاجًا لأن أكرر لك مبررات "عبعال" التي دفعته لاختيار إبراهيم نافع فسأتركها لذكائك، خاصة أن تأثير جرعة الركاكة كان أثقل عليّ من تأثير الرقاق والمحشي. أخذت فصول الكتاب تلطمني فصلا وراء الآخر، ابراهيم نافع في سطور، نشأته وأسرته، ابراهيم نافع صحفيًا، ابراهيم نافع مؤلفًا، إبراهيم نافع إداريًا، ابراهيم نافع نقابيًا، ثم أخيرا من أقوال إبراهيم نافع. مالي أنا ولكل هذا الهذر، أين ما فرحت من أجله بالكتاب؟ أين الفصول التي ستدفعني للاقتداء بإبراهيم نافع؟: "كيف تصبح مليونيرا من لاشيء"، " كيف تكون كاتبا ركيكا ورئيس أكبر صحيفة في الشرق"، " كيف تخصي المثقفين الذين يكتبون لديك"، "كيف تبقى على كرسي رئاسة التحرير ثلاثين عاما"، "كيف تحول الصحافة إلى بيزنس"، هذه هي الفصول التي كنت أريد قراءتها في كتاب كهذا، لكنني وجدت بدلاً من ذلك كلامًا ركيكًا عن عبقرية إبراهيم نافع ككاتب وكيف تلقف نداء الصحوة الكبرى الذي أعلنه الرئيس مبارك في 13 نوفمبر 1985 وقام بتقديمه إلى الناس من وجهة نظر الصحفي ومطالبته بترجمة هذا النداء إلى واقع ملموس يعايشه المجتمع بل ووضع خطوات ينبغي اتباعها لتنفيذ هذا النداء، طبعا عندما تقرأ تلك الخطوات النافعية المباركية تستغرب لماذا لم ينفع الله بها مصر ولم يبارك في أحوالها، ولماذا لم تصحو مصر صحوة كبرى أو صغرى طيلة عشرين عاما، بالطبع لن تجد تفسيرا لذلك سوى أن مصر "ما كانتش بتجيب الأهرام كل هذا الوقت وكانت بتجيب المساء، تستاهل ما جرى لها".

هكذا وصلت محبطاً إلى مؤخرة الكتاب حيث أراد الله أن يكافئني على صبري في قراءة الكتاب الركيك، في المؤخرة وجدت فصلاً عنوانه "قالوا عن إبراهيم نافع" صدّره الدكتور "عبعال" بمقولة ساطعة للرئيس مبارك كتبها في دفتر زيارات الأهرام عقب زيارته للمؤسسة في 15 ديسمبر 1984 عبر فيها الرئيس عن ثقته في إبراهيم نافع في أنه سيواصل "أصدق الجهود وأخلصها من أجل استمرار مسيرة العطاء والإلتزام بالكلمة الحرة وبقيمنا الروحية وتراثنا الحضاري فإن الكلمة الحرة ضوء كشاف ينير الطريق أمام مسيرة العمل الوطني".

اقشعر جلدي من رهبة هذه الكلمة وقلت لنفسي وأنا أتأملها مرارا وتكرارا، ما كل هذا اللغط الذي يثيره إذن صديقنا مصطفى بكري عن ثروات إبراهيم نافع والفساد الإداري والمالي الذي استشرى في عهده، هل هذا جزاء الرجل الذي طلب منه الرئيس مبارك أن يمسك بالكشاف لينير الطريق أمام مسيرة العمل الوطني، هل حمل الكشاف أمر سهل يا إخوان، هل إنارة الطريق أمام المسيرة شيء يتعمل ببلاش، خاصة أن مسيرة العمل الوطني بتسحب كهرباء كتير كما نعلم، هل كان مطلوبا من الرجل وهو مشغول بالمهمة التي كلفه بها سيادة الرئيس أن يقيد مايسحبه الكشاف من حجارة، قولوا كلاما غير هذا ياإخوتي، إنني أزعم أن صديقنا مصطفى بكري سيشاركني القشعريرة بعد أن يقرأ هذه المقولة وسيعلم أنه ظلم ابراهيم نافع ظلما بينا بل ولربما قرر أن يشاركه في حمل الكشاف وتغيير الحجارة هذا إذا لم يكن نافع قد سلم الكشاف ضمن العهدة التي سلمها لخليفته أسامة سرايا.

على أي حال لا أستطيع أن أجزم ببراءة قدوتي ابراهيم نافع من أي اتهامات منسوبة إليه فالأمر أمام جهات التحقيق والقضاء العادل وحده سيفصل فيه، لكنني أتمنى عليه ألا يستغل كلامي هذا استغلالاً سيئًا فيقوم بالاستشهاد بمقولة الرئيس مبارك أمام جهات التحقيق ليثبت أنه كان يؤدي مهمة وطنية سامية، فنحن نعلم أن الرئيس مبارك لديه مهام جليلة وسامية وراشدة، ولم يكن ليتركهن جميعا ليسأل ابراهيم نافع عن ماله من أين اكتسبه وفيم أنفقه. وبدلاً من أن نغرق نحن بدورنا في سؤال إبراهيم نافع عن ماله، علينا أن نناشده بعقد جلسات مطولة مع الدكتور عبعال لإصدار طبعة ثانية من كتابه يحرص فيها على أن يبين لنا كيف نقتدي به فعلا، فلا نريد أن نهدر الفرصة التي أهدرها من قبلنا جيل علاء الديب وغيره من المثقفين الذين لم يأخذوا من مصر إلا البهدلة وقلة القيمة.

حفظ الله ابراهيم نافع لنا قدوة حسنة وكشافًا ينير مسيرة العمل الوطني ببركة حجارة عهد الرئيس مبارك الذي يدوم ويدوم ويدوم ويدوم.

...

نشرت هذه السطور في مايو عام 2006  في صفحة (قلمين) في صحيفة (الدستور) وهي جزء من كتابي (أوسكار الموالسة) الذي أتمنى أن تأتي فرصة لإعادة طباعته قريباً.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.